جوناثان باول في دمشق: دعم للإصلاح أم صفقة بريطانية مع النظام الجديد؟

في الخامس من آب 2025، زار جوناثان باول، مستشار الأمن القومي البريطاني، العاصمة السورية دمشق، حيث استقبله الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، بحضور وزير الخارجية ومدير المخابرات العامة، وتعبر الخطوة عن تموضع جديد للمملكة المتحدة في مشهد شرق أوسطي يعاد تشكيله بهدوء.

العودة البريطانية إلى سوريا بعد أكثر من عقد من الانكفاء تحمل تحولا في السياسة الخارجية، يتجاوز حدود المصالح الثنائية، ليحاكي توازنات أمنية واستراتيجية في طور التشكل بعد انحسار الهيمنة الروسية وتراجع الانخراط الأميركي التقليدي.

من هنا، تُفهم زيارة باول لا فقط باعتبارها استمرارا للزخم الذي أطلقه وزير الخارجية ديفيد لامي، بل كخطوة تستبق لحظة إقليمية قادمة، تُحاول فيها لندن أن تحجز لنفسها موقعا على طاولة ترتسم فوقها خرائط النفوذ الجديدة.

المفارقة أن هذه العودة تأتي عبر بوابة دمشق، لا عبر عواصم النفوذ التقليدي لبريطانيا في الخليج، ما يطرح سؤالا مركزيا: فهل نحن أمام انخراط بريطاني استباقي لإعادة توزيع الأدوار في سوريا ما بعد الأسد، أم أمام تكتيك رمزي يُراد به تعويض غياب استراتيجي مزمن في المنطقة؟

مسار تدريجي باتجاه تطبيع شامل

تأتي زيارة باول بعد زيارة وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي في 5 تموز 2025، أول زيارة بريطانية بهذا المستوى منذ أكثر من 14 عاما، وأعلنت خلالها المملكة المتحدة استئناف العلاقات الدبلوماسية، إضافة إلى دعم مالي بقيمة 94.5 مليون جنيه إسترليني لخدمات الإغاثة وإزالة الأسلحة الكيميائية، دون أن ننسى رفع العقوبات عن 12 جهة حكومية سورية في نيسان، في محاولة لدعم إعادة البناء.

بهذا المعنى، تشكّل زيارة باول المرحلة الثانية ضمن مسار دبلوماسي واضح، فالأولى على مستوى وزارة الخارجية، والثانية على مستوى الأمن والمخابرات، ولكنها تبدو زيارة أمنية بقدر ما يبدو أنها تثبيت سياسي واستراتيجي ضمن تصوّر بريطاني يسعى لتعيين نفسه شريكا للرؤية الانتقالية في سوريا المستقبلية.

صلاحيات جزئية تحت سقف السيادة

رغم حضور المسؤولين الأمنيين، فإن الإعلان الرسمي حصر النقاش في مواضيع “تعزيز العلاقات الثنائية” و”التطورات الإقليمية والدولية”، مع “الاستعداد للمبادرات الجادة بشرط احترام السيادة الوطنية، والافت عدم الكشف عن تفاصيل محددة تتعلق بمحاور الأمن ومكافحة الإرهاب، أو شكل التعاون الاستخباراتي، وربما هذا الغياب مقصود لتفادي إثارة حساسيات سيادية داخلية أو إقليمية.

من منظور لندن، يبدو أن الهدف أكبر من مجرد دعم إنساني، فهي خطوة أولى نحو إعادة توطين النفوذ في مرحلة ما بعد الأسد، وربما وضع بريطانيا كفاعل أمني وسياسي ضمن خارطة الإصلاح السوري، فباول يشغل منصب مستشار الأمن القومي، وهو ليس مجرد منصب دبلوماسي تقليدي، ما يشير بوضوح إلى أن زيارته تتجاوز الطابع البروتوكولي، وتحمل أبعادا تنظيمية وتخطيطية تؤسّس لتعاون أمني فعلي في المستقبل القريب.

الرغبة البريطانية في أن تكون “جزءا من الحلّ” ليست مفاجئة بعد أن رفعت تدريجيا عقوباتها عن الحكومة السورية بدأت في نسيان، فالخطوة تحمل بُعدا رمزيا بأنها تفتح الباب لمراحل تعاون أعمق، ربما على المستوى الاستخباري والتقني، رغم حرص الجانب السوري على تأكيد طبيعة العلاقة السيادية.

ثغرات الشفافية: ما الذي لا نعرفه؟

نقاط الضعف الأساسية في تغطية هذه الزيارة تكمن في غياب الشفافية حول تفاصيلها الدقيقة، وندرة المعلومات المتاحة للرأي العام فهناك

  • غياب المعلومات الزمنية، حيث لم يُكشف عن مدة الإقامة الرسمية لباول، كما أن تفاصيل الاجتماعات التقنية أو المتابعة لم تُعلن.
  • غياب الرجوع إلى الاتفاقيات أو وثائق العمل الممكنة، فلا يوجد ما يوحي بوجود خارطة طريق مشتركة أو مذكرة تفاهم.
  • غياب الشفافية حول الأهداف الأمنية؛ فهل كان الهدف مناقشة مكافحة الجماعات المتطرفة، أو ضبط الحدود، أو فقط التواصل السياسي الأمامي؟

هذه المعطيات تُفقد التحرك الدبلوماسي تماسكه، وتُضعف مصداقية الشراكة التي يُروَّج لها علنا، في حين تبقى أدواتها وآلياتها حبيسة الغموض والكتمان.

هل هي خطوة في الاتجاه الصحيح؟

ورغم الصورة الرمزية التي ظهرت بها الزيارة إلا أن تقييم جدواها يقتضي النظر في تأثيرها العملي، ومدى قدرتها على تجاوز الطابع الاستعراضي نحو بناء شراكة مستدامة وفاعلة، فالمعيار الحقيقي لأي تحرك دبلوماسي لا يُقاس بنبرة البيانات الرسمية، بل بقدرته على تحويل الرسائل السياسية إلى مسارات ملموسة تُعيد تشكيل العلاقة على أساس من التوازن والاحترام المتبادل، يمكن تفكيك الزيارة إلى عناصرها الأساسية وطرح التساؤلات التالية: ما الذي تحقق فعلاً؟ وما الذي لا يزال مؤجلاً أو غامضا؟

أولا: قوة رمزية، لكن بتكلفتها

زيارة مستشار الأمن القومي تُعدّ مكسبا دبلوماسيا لعنوان “الشرعية الانتقالية” ولكن هل تكفي؟ المساحات الرمزية تصبح نافعة فقط إذا تحوّلت إلى نتائج ملموسة عبر دعم بنية تحتية، وإصلاح أمني داخلي، وتعزيز دور الأجهزة الشرعية في ضبط الأوضاع الأمنية، ودون ذلك، تظلّ الزيارة جزءا من بروتوكول الارتباط الدولي دون دليل على التأسيس الحقيقي.

ثانيًا: اختبار السيادة

المعايير الدولية أصبحت أكثر مرونة في التعاطي مع الوضع السوري؛ بانتظار أن تُظهر دمشق التزاما عمليا بمسار سياسي واضح وشامل، ولكنها تبقى مضبوطة بقدر الالتزام بالقوانين الدولية، أي تعاون أمني، حتى لو لم يكن رسميا، ينبغي أن يستند إلى مبادئ الالتزام المدني والشفافية، وبما لا يُقوّض استقلال القرار السوري، ولا يثير مخاوف القوى المعارضة، سواء داخل البلاد أو في الإقليم.

هذا يتطلّب من المعارضة السورية، وأيضا المجتمع المدني، أن يراقب ما سيُسلّم من بيانات أو قوائم أو تقنيات، وأن يسائل عن صفة الشراكة وكيفية تفعيلها فعليًا.

ثالثًا: أفق مرن أم سقف سياسي؟

المستجدات تُشير إلى أن لندن ربما تختبئ وراء سقف سياسي يُعلن التزامه بالعمل ضمن تصريح رسمي واحترام للسيادة، لكنها في الوقت ذاته تُهيّئ الأرضية لعبور غير معلَن نحو شراكة استخباراتية رفيعة، والشفافية حول هذه المراحل ستكون مفتاحا للحد من التفسيرات التي تذهب إلى أن ما يجري مجرد استغلال سياسي لشرعية جديدة دون تحقيق فعلي على الأرض.

زيارة جوناثان باول إلى دمشق لا يمكن اعتبارها حدثا بسيطا لإنها علامة فارقة في تاريخ العلاقة البريطانية–السورية، ولكن هذه الخطوة تحتاج إلى استكمال بالتصريح والشفافية والتنسيق العملي حتى تتحول من طريق رمزي إلى مشروع تحوّل فعلي.

إن التحدي الحقيقي يكمن في قدرة الطرفين على ترجمة هذا اللقاء إلى أطر عمل مؤسساتية عبر لجان مشتركة، واتفاقيات تقنية أو إغاثية، وتنسيق استخباراتي مدني واضح، مع ضمانات حقيقية بأن هذا لا يعيد فتح عمليات قيادة سرية فوق المشهد السوري، ولا يتنكّر لحق المعارضة والمجتمع المدني في الإصلاح والمساءلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *