“توماس باراك في سوريا: البزنس والدبلوماسية في استراتيجية واشنطن 2025”

عندما اختار الرئيس دونالد ترامب، في ولايته الثانية، أن يُسند ملفا بمثل تعقيد وتشابك الساحة السورية إلى توماس براك، لم يكن ذلك مجرد تعيين إداري روتيني، بل كان بيان نوايا،

فرجل الأعمال الذي تلطخت سمعته باتهامات تتعلق بالوكالة غير المسجلة لصالح الإمارات، عاد إلى الواجهة كمبعوث رئاسي إلى منطقة يتقاطع فيها الجهادي بالمصالح، والإقليمي بالدولي بالجيواستراتيجي.

السؤال الذي يفرض نفسه بعد شهور من هذا التعيين؛ هل تمثل مهمة براك تحولا في السياسة الأميركية تجاه سوريا، أم أنها مجرّد استكمال لنهج اختزال الملف السوري في اعتبارات قصيرة الأمد ومصالح تجارية مغلفة بدبلوماسية مؤقتة؟

من هو توماس باراك؟ من المال إلى الدبلوماسية

براك لا يمتلك في سجله خبرة دبلوماسية أو استخباراتية تُذكر، إنما شبكة علاقات استثمارية ممتدة من الخليج إلى تركيا، استغلها بشكل جيد منذ بداية صعود ترامب السياسي، وفي عام 2021، واجه براك اتهامات جنائية حول عمله كوكيل غير مسجل لصالح الإمارات، حيث كشفت القضية كيف يُعاد تدوير المال والسلطة داخل مؤسسات الحكم الأميركية.

ورغم أن براءته من القضايا المنسوبة إليه طمست ملامح الجرم الجنائي، فإن الأدلة التي كشفتها جلسات المحاكمة، سواء الرسائل المشفّرة أو الاتصالات المتكررة مع مسؤولين خليجيين، أبقت علامات استفهام حقيقية حول ولاءاته وحدود استقلاليته كمبعوث.

إعادة تأهيل الجهاديين؟

الأكثر إثارة للقلق في أداء براك لا يرتبط فقط بخلفيته التجارية، بل خطابه التبريري إزاء الفصائل الجهادية. حيث تبنّى توصيفات ملطّفة لجماعات كهيئة تحرير الشام (HTS)، ووصفها بـ”قوات محلية قبلية”، في الوقت الذي تصنفها الحكومة الأميركية كمنظمة إرهابية، وبهذه السياسة يمهد براك لمسار دمج هذه القوى في معادلة ما بعد الحرب.

هذا التحول اللفظي لم يكن عرضيا، بل منسجما مع جهود إقليمية، ولا سيما تركية، لإعادة تعريف دور الجهاديين كجزء من “الواقع السوري الجديد، وهو ما يغير طبيعة السؤال حول السياسة الأمريكية؛ فهل تتجه واشنطن لإعادة هندسة الخريطة السورية وفق مقاربة أمن ناعم، تقوم على التعايش مع الفاعلين المتشددين؟

ازدواجية معيارية: إسرائيل والنظام

أكثر المواقف إثارة للجدل في أداء توماس براك ظهرت في مفارقة خلال تعاطيه مع القوى الفاعلة على الأرض، لا سيما في موقفه من العمليات “الإسرائيلية” في الجنوب السوري؛ مقارنة بتعامله مع انتهاكات حكومة دمشق، ففي حين لم يتردد براك في توجيه انتقادات علنية إلى تل أبيب، متحدثا عن أن “الغارات الإسرائيلية تعقّد المشهد وتُضعف فرص التهدئة”، التزم الصمت أو أصدر تصريحات ملتبسة حول مسؤولية السلطات السورية عن مجازر السويداء، رغم وجود وثائق من منظمات حقوقية دولية تؤكد ضلوع قوات موالية للحكومة فيها.

هذا التباين في الخطاب لا يمكن عزله عن السياق السياسي الأوسع الذي يحكم مقاربة واشنطن في المنطقة، فـ”إسرائيل”، رغم كونها حليفا استراتيجيا، باتت تُعامل في بعض الأوساط الأميركية كفاعل يزعج توازنات واشنطن الهشة في الملف السوري، خاصة عندما تتقاطع مصالحها العسكرية مع ترتيبات غير معلنة بين الولايات المتحدة وروسيا حول مناطق خفض التصعيد، ويمكن فهم انتقاد براك لـ”إسرائيل” كجزء من خطاب تكتيكي هدفه التمايز السياسي، لا تحوّل جوهري في الموقف الأميركي.

المعضلة الأعمق تكمن هي التردد تجاه السلطة في دمشق، فبينما وُثقت انتهاكات صارخة، منها استخدام الذخائر الحارقة، والاعتقالات الجماعية، وتهجير مدنيين قسرا في السويداء، اكتفى براك بالإشارة إلى “الحاجة للتثبت من الوقائع”، وهو تعبير يُستخدم عادة للتملص من المواقف الواضحة، وهذه “السيولة” في الخطاب تطرح تساؤلات حقيقية حول نوايا واشنطن، ومدى استعدادها للتعامل مع النظام بوصفه طرفا يُراد إعادة تدويره دوليا في لحظة إقليمية شديدة التعقيد.

النتيجة أن ازدواجية براك لم تكن مجرد زلّة دبلوماسية، بل تجلٍّ لتخبط استراتيجي في واشنطن، فهل الهدف هو حماية المدنيين كما تدّعي؟ أم أن الإدارة، ببساطة، اختارت إدارة الصراع من بعيد، دون أن تلزم نفسها بأي مسار واضح سوى إبقاء الأمور تحت السيطرة النسبية؟

هذه الأسئلة تبقى بلا إجابة شافية، لكنها تكشف حجم الغموض البنيوي الذي يحكم الموقف الأميركي من سوريا، خاصة عندما يُكلّف الملف لمبعوث مشغول أكثر بتهدئة قنوات المال والأمن، من التفاعل مع المأساة الإنسانية والسياسية التي تعصف بالبلاد منذ أكثر من عقد.

براك في مواجهة اليمين: لاورا لومر نموذجا

لم يقتصر النقد الموجه لتوماس براك على التيار الديمقراطي، أو مراكز الأبحاث ذات التوجه الليبرالي أو الحقوقي، فالمفاجأة جاءت من داخل المعسكر اليميني نفسه، حيث صدرت أصوات ناقدة من أوساط يُفترض أنها الأقرب إلى الرئيس ترامب، وتملك نفوذا داخل دوائر صنع القرار في الحزب الجمهوري، حيث لم تكتف بالتلميح، بل وجّهت اتهامات صريحة تشير إلى اختلال في توجهات براك، وتناقضها مع ما تعتبره القاعدة المحافظة “القيم السيادية الأميركية”

أبرز هذه الأصوات جاءت من لاورا لومر، الناشطة اليمينية المثيرة للجدل، التي لعبت دورا رمزيا في التعبير عن نبض القاعدة الشعبوية المؤيدة لترامب، حيث اتهمت براك علنا بـ”تمكين الجهاديين”، متسائلة في تغريداتها على منصة X عن كيفية القبول بمبعوث يدلي بتصريحات تبريرية لجماعات مصنفة إرهابية، في الوقت الذي يُفترض أن واشنطن تقود تحالفا ضد الإرهاب، ووصفت براك بأنه “خائن للقيم الوطنية” ودعت إلى إقالته فورا، وهو ما فتح نقاشا حادا داخل وسائل إعلام يمينية مثل Breitbart وThe Gateway Pundit.

ونقلت تقارير صحفية مثل Politico  و The Guardian، أن تململا حقيقيا يسود داخل الإدارة الأميركية بشأن أداء براك، وسط نقاشات غير معلنة حول تقييد صلاحياته، أو حتى البحث عن بديل أقل إثارة للجدل، هذا التآكل الداخلي في الدعم السياسي يُضعف موقف براك، ويطرح مجددا مسألة كفاءة التعيينات الرئاسية في قضايا حساسة تتطلب مزيجا من الحياد والكفاءة والخبرة الميدانية، لا الولاء المالي أو الشخصي فقط.

مؤشرات هيكلية

بمقارنة براك بمبعوثين سابقين، كجيمس جيفري وروبرت فورد، يتضح افتقاره إلى العمق المهني، وارتباطه الأكثر وضوحا بمصالح استثمارية، فبينما امتلك فورد رؤية مبكرة عن ضرورة كبح الجماعات المتطرفة، وكان جيفري يتقن التوازن بين قسد وتركيا، لا يظهر أن براك يمتلك أدوات تحليل أو تأثير مماثلة، بل يبدو كمُسَيَّر بشبكة مصالح أكثر من كونه صانع قرار.

ما يكشفه أداء براك ليس مجرد خلل فردي، بل أزمة مؤسساتية. فتعامل واشنطن مع الملف السوري بات رهينة ثلاث أمور ضاغطة، أولها اعتبارات انتخابية داخلية، ثم مصالح تجارية عابرة للقارات، وأخيرا فقدان البوصلة الأخلاقية والاستراتيجية في آن.

عمليا فإن براك ليس استثناء، بل تجسيد لاتجاه جديد في السياسة الأميركية تعتمد دبلوماسية قصيرة النفس، وتدار من غرف المستثمرين، وتدعي القيم أحيانا، وتتخلى عنها عند أول تعارض مع المصالح.

ما بعد براك

إذا كانت سوريا ساحة اختبار لما تبقّى من مصداقية أميركية في الشرق الأوسط، فإن استمرار توماس براك في مهمته يعني أمرين؛ إما أن واشنطن قررت فعلا التخلي عن دورها كضامن للشرعية الدولية، أو أنها باتت عاجزة عن إنتاج كوادر تملك فهما للميدان وقدرة على التعامل مع تشابكاته.

وفي الحالتين، يدفع السوريون ثمن السياسة الأميركية، فهناك سياسة تصنعها تبرعات الحملات الانتخابية، لا تقارير الاستخبارات ولا الحقائق على الأرض.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *