بثّت قناة i24NEWS الإسرائيلية في أواخر حزيران 2025، تقريرا مطوّلا عن ما وصفته بـ”عمليات تهجير قسري في ريف حماة السورية”، متهمة جهات رسمية وشركة استثمارية محلّية، تُدعى “اكتفاء للاستثمار الزراعي”، بتنفيذ تغيير ديموغرافي ممنهج في القرى ذات الغالبية العلوية، تحت غطاء اقتصادي–استثماري.
رغم أهمية ما ورد في التقرير لجهة التوثيق والتحذير، فإن السؤال الأعمق لا يتعلق فقط بمحتوى التقرير، بل بمصدره: لماذا تهتم قناة إسرائيلية رسميا، فجأة، بـ”العدالة الطائفية” في سوريا؟ وعلى المستوى السوري فإن الغياب الرسمي للرد على هذا التقرير يشكل أيضا إشارات استفهام !
المفارقة، هنا، تتجاوز المحتوى لتبلغ مستوى جيوسياسيا – إعلاميا يستحق التأمل.
خلفيات التغطية الإعلامية الإسرائيلية
قناة i24NEWS ليست وسيلة إعلام عادية، فهي مشروع دولي “إسرائيلي” بامتياز، وتم إطلاقها في 2013 بتمويل من الملياردير الفرنسي–الإسرائيلي باتريك دراهي، وفي ظاهرها، هي قناة متعددة اللغات (الإنجليزية، الفرنسية، العربية، والعبرية)، تهدف إلى تقديم تغطية عالمية “غير متحيزة”، ولكن من يراقب خطوطها التحريرية يلاحظ أجندة إعلامية موجّهة، تستبطن زاوية دفاعية واضحة عن المصالح “الإسرائيلية”، خاصة فيما يتعلق بإيران، فلسطين، وسوريا.
لا ينطلق وصف القناة لما يجري في ريف حماة بأنه “تهجير قسري للعلويين” من حرص حقوقي، فهي تضغط على هشاشة شرعية الحكومة السورية عبر استراتيجية تواصل سياسي، فتفكيك الرواية الرسمية السورية من الداخل واضحة، وإظهار النظام كجهة تمارس اضطهادا طائفيا ينقل هندسة داخلية مضطربة يُعاد رسمها في الظل.
بين المصدر والنية: ما الذي لا تقوله i24؟
وفق التقرير، فإن شركة “اكتفاء” بالتنسيق مع سلطات محلية متورطة في طرد أهالي 23 قرية من مناطقهم، بالتوازي مع تدخل ميليشيات مرتبطة بالسلطة في دمشق لبث الرعب، وكل ذلك يتم، كما تقول القناة، تحت غطاء استثمار زراعي يسمح لاحقا بتوقيع عقود انتفاع مع وافدين جدد، في صورة توحي بعملية تطهير عرقي مقنّع.
إن “ما لا يُقال” في هذا الخبر هو الأكثر أهمية، فالخطورة لا تكمن فقط في أن القناة تحاول التفرد في نقل أخبار سوريا، بل في أنها تدخّلت إعلاميا في ملف داخلي سوري معقّد، مستخدمة لغة حقوقية لتغذية تصدّعات طائفية موجودة بالفعل، وبشكل يمكن أن يُستثمر سياسيا في سياقات إقليمية أخرى.
من جانب آخر تكشف الرواية “الإسرائيلية” هشاشة التعامل الرسمي السوري مع هذا الملف، فهناك غياب تام لأي توضيح أو رد مؤسساتي من الحكومة أو الجهات القضائية، رغم حجم الاتهامات وحساسية المناطق المعنية، وهذا الصمت الرسمي لا يُفسَّر فقط بالتواطؤ، بل يعكس أيضا عجز الدولة عن امتلاك رواية سيادية مضادة، أو حتى إدارة الأزمة إعلاميا بما يحفظ ما تبقى من تماسك اجتماعي، فهي في لحظة فراغ سيادي تسمح لأطراف خارجية أن تملأ الحكاية… وأن تكتبها كما تشاء.
إسرائيل وسوريا: المفارقة الأخلاقية
“إسرائيل” نفسها متهمة بتهجير الفلسطينيين في القدس، والنقب، ومخيمات غزة، ومن دون غطاء اقتصادي يشبه سردية ما يجري في حماة، بل باستخدام القوة العسكرية المباشرة، الأمر الذي يجعل أي خطاب صادر عن إعلامها بشأن التهجير “في دول الجوار”، خاضعا بالضرورة لمبدأ التوظيف السياسي.
حين يتحدث إعلام من قلب تل أبيب عن “التهجير القسري”، فإن أخلاقيات الطرح تنهار تحت وطأة الواقع التاريخي، فهل المسألة تتعلق بحقوق الإنسان فعلا، أم بتأجيج نوع خاص من السرديات التفكيكية داخل بيئة معادية؟
هذا النوع من التناقض يُسمى Strategic Narrative Engineering هندسة الروايات الاستراتيجية لتخدم مصلحة محددة، حتى لو بدت حيادية أو إنسانية في ظاهرها.
وما يزيد المفارقة حدة، أن هذه السردية “الإسرائيلية” تأتي في وقتٍ تُبذل فيه علنا أو ضمنيا– محاولات لإعادة تطبيع العلاقات بين دمشق وتل أبيب، من خلال وسطاء إقليميين ودوليين، وهنا تبدو دمشق مكشوفة من الداخل أكثر من أي وقت مضى؛ فبينما تسعى لترتيب موقعها في المعادلة الإقليمية الجديدة، تفقد السيطرة على سرديتها الداخلية، وتُترك مساحة فارغة تتسلل منها قنوات مثل i24 لتصوغ روايات تتجاوز التوثيق، وتدخل في صلب الهوية الوطنية والطائفية للبلد.
إن هشاشة الموقف الرسمي، وتراجع الخطاب السيادي، يمنح “الإعلام الإسرائيلي” فرصة مزدوجة من خلال فضح الداخل السوري، وفرض أجندة خارجية “ناعمة” تحت غطاء الصحافة الحرة.
الأجندة غير المعلنة: ضرب الشرعية من داخلها
توقفت تغطية i24 عند طائفة بعينها (العلويين)، في منطقة بعينها (ريف حماة)، وبشبهة رسمية (شراكة السلطة المحلية مع شركة زراعية)، ما يعكس نمطا متعمدا في التوجيه، غير أن المفارقة اليوم تكمن في أن هذه التغطية لم تعد تتقاطع مع سردية السلطة في دمشق بعد انهيار سلطة البعث، بل تكشف تحولا بنيويا أعمق، لأنها تتعامل مع تفكيك تدريجي للتداخل السكاني في سوريا.
في هذا السياق، فإن خطاب لقناة i24 لا يندرج في سياق “حقوق الإنسان”، بل يعمل ضمن هندسة سردية أعمق تريد إظهار التفكك الداخلي داخل الشرائح الاجتماعية، لتفريغ البلاد من أي مكون قادر على استعادة وحدة جماعية.
وإذا صحّ هذا التحليل، فإن ما يُروَّج له ليس فقط إدانة للسلطة، بل أيضا إعادة صياغة للشرعية الاجتماعية والسياسية على أسس مغايرة تماما لما عرفته سوريا في العقود السابقة، ما تقدمه القناة، في جوهره، تصور لمنظومة ما بعد السلطة، تبدأ برواية إعلامية وتنتهي بإعادة ترتيب الخريطة السكانية نفسها.

الفراغ الحقوقي: من يسدّه؟
في ظل غياب إعلام سوري ومنظمات محلية قادرة على التحقيق المحايد، يصبح المشهد مكشوفا أمام تدخلات إعلامية أجنبية، حتى تلك التي تنطلق من دول تعتبر طرفا في الصراع، لا مراقبا له.
وهنا مفارقة سوريا الكبرى فهي بعد 14 عاما من الحرب لا تملك مؤسسات تقف على مسافة واحدة من الجميع، ما يفتح المجال أمام إعلام دولة تحتل الجولان أن تتحدث عن عدالة الأرض والملكية في حماة، من دون أن يُنظر في الأمر على أنه عبث سياسي.التهجير القسري جريمة إنسانية بكل المقاييس، لكن حين يصبح الحديث عنه أداة لإعادة رسم التوازنات الطائفية، دون تحقق قضائي أو توثيق مستقل تدفع إليه
الحكومة السورية، فإننا أمام استخدام للعدالة كسلاح ناعم، وهذا ما فعلته i24NEWSحيث أدخلت نفسها في ملف داخلي سوري معقد، و”إسرائيل” لا تحتاج للحديث عن التهجير في سوريا كي تكسب تعاطفا دوليًا أو شرعية إقليمية، لكنها تحتاج عبر أدوات إعلامية مثل i24 إلى هندسة وعي النخب في المنطقة، وتفكيك خصومها من الداخل عبر السردية، وفي ظل غياب كامل للسردية السورية أو لإجراءات رسمية لتحقيق العدالة.
هكذا حكومة ورئيس يعتبرون أنفسهم ثورجين فيقومون بتهجير السوريين من بيوتهم واملاكهم بحجة استثمارات استثمارات ماذا بأي حق منذ متى الاستثمارات على حساب المواطن وحقوقه بأرضه وبيته ومسقط رأسه هؤلاء حرامية مرتز قه عملاء باعة اوطان الله على الظالم