منذ سقوط النظام السابق في 8 كانون الأوّل 2024، دخلت جماعة الإخوان المسلمين في سورية في ما يشبه هدنة اضطرارية مع السلطات الجديدة في دمشق.
الجماعة التي طالما قدّمت نفسها كمعارضة تاريخية وجذرية، وجدت نفسها فجأة في ما سُمّي بـ”الجمهورية الوليدة” تتلمّس موقعا بين الشرعية القديمة المثقلة بالمواجهات، والجديدة الغامضة المعالم.
فرض الماضي نفسه أمام الجماعة ولكن بلغة الحاضر، فمن ذاكرة الاستئصال، وقانون 49 لعام 1980، والمنفى الطويل، عادت ليس بوصفها عبئا فقط، بل كعدسة تحاول من خلالها تفسير حاضرها وصياغة مستقبلها، وهذه العودة إلى الذاكرة لم تكن بريئة، فهي إعادة استثمار سياسي أكثر من مراجعة نقدية، ومحاولة لاستخدام الماضي كدرع رمزي يقي الجماعة من مواجهة أسئلة الحاضر الملحّة.
هل صاغت الجماعة خطابا يضعها في موقع المعارضة الحقيقية، أم أنها اختارت لغة البراغماتية لتأمين مقعد في النظام الجديد؟ وهنا لا تكفي النصوص وحدها؛ فالخطاب فعل اجتماعي يتجاوز الكلمات ليحدد مسارات الفعل والإمكان، والسؤال الأعمق: هل يفتح خطاب الإخوان أبواب السياسة أمام السوريين، أم يغلقها بحسابات البقاء وتوازنات اللحظة؟
ثلاثية الخطاب الجديد: لغة توافقية أم إرجاء للنقاش؟
أعادت الجماعة هندسة معجمها حول ثلاثية تجذب الانتباه؛ دولة مدنية حديثة، ومرجعية إسلامية، ووحدة الأرض، والشعب، غير أنّ هذه الصياغة تعمل أكثر كـبطاقة عبور لغوية لا كتصميمٍ مؤسساتي؛ فهي تخلق غموضا استراتيجيا يسمح لكل جمهور أن يقرأ فيها ما يريد، وتجنب الجماعة كلفة الإجابة عن الأسئلة الشائكة.
ما المقصود بـ”مدنية” هنا: لا عسكرية أم لا دينية؟ وما طبيعة “المرجعية الإسلامية”، هلي قواعد مُلزِمة تشريعيا أم قيم عامة أخلاقية؟ ثم إنّ “الوحدة” تُستَخدم كـشعارٍ مُعطِّل لإقفال النقاش حول اللامركزية والعدالة المناطقية وحقوق المكوّنات، بهذه الطريقة، تتحوّل الثلاثية إلى تدوير للأزمات دون حسم، فلا نعرف أين يقف الدين من القضاء والأحوال الشخصية والتعليم، ولا كيف تُترجم “المدنية” في علاقة التشريع بالحقوق، ولا بأيّ آليات تُصان “الوحدة” من دون خنق التنوّع.
ما يبدو “حلا وسطا” هو تعويمٌ مُمنهج للأسئلة الكبرى واستبدالُها بمفاهيم ملتبسة تُسلِّف شرعية رمزية من دون التزامٍ قابل للقياس، فهو خطاب يُدير اللحظة أكثر مما يُصمِّم المستقبل، ويُطمئن من بعيد، لكنه لا يبني إجاباتٍ مؤسَّسة على قرب.
من قانون 49 إلى مادة 49: معارك المعنى واستعادة الذاكرة
عندما احتفت الجماعة بالمادة 49/2025 التي تُجرّم تمجيد نظام الأسد، بدت وكأنها تمارس “معارك المعنى” عبر تحويل القانون إلى ميدانٍ للذاكرة، حيث تُستعاد رمزية الماضي ويُعاد تعريف الشرعية السياسية من خلال النصوص، فالجماعة تتعامل مع القانون الجديد كـمرآة معكوسة لقانون 49 لعام 1980 الذي جرّم وجودها، أكثر من كونه أداة لإرساء عدالة انتقالية متوازنة. ويغيب السؤال الأهم حول جعل هذا النص إنصاف للضحايا.
تحولت المادة 49/2025 من فرصة لتأسيس عدالة تأسيسية إلى ثأر رمزي يكرّس ذاكرة الجماعة أكثر مما يكرّس ذاكرة المجتمع، وتوظيف القانون لإعادة الاعتبار إلى الجماعة كضحية، فالقانون، يُستعمل كأداة لإعادة إنتاج مركزية الإخوان في سردية الظلم، والخطورة أن إعادة هندسة الذاكرة عبر القانون تعيد إنتاج ما عانى منه السوريون من استغلال النصوص القانونية لتصفية الحسابات السياسية.
هنا يظهر الطابع البراغماتي للخطاب حيث لا يُعنى ببناء مؤسسات عدالة راسخة، بل بتسجيل نقطة سياسية في ملعب التاريخ، وهذا السلوك إزاحة لمعركة السياسة من الواقع إلى اللغة، حيث ينتصر الرمز لكن تبقى العدالة مؤجَّلة.
الاعتراف المشروط: الأكراد بين الإدماج والخوف من الفيدرالية
خطاب الإخوان حول الأكراد يتأرجح بين اعترافٍ لفظي بالمظلومية وتأكيدٍ صلب على وحدة الجغرافيا، فهو ظاهريا خطاب تصالحي يقرّ بأن الأكراد تعرّضوا للتهميش والإقصاء، ويعترف بأنهم جزء أصيل من النسيج السوري، لكنه اعتراف مشروط يتوقّف عند عتبة الفيدرالية أو أي صيغة سياسية تمنح الأكراد هامش التحرك، فيفتح الباب أمام شراكة شكلية، لكنه يغلقه أمام إعادة صياغة حقيقية للعقد الاجتماعي.
هذا التوازن الهشّ يكشف براغماتية إخوانية تسعى لتهدئة كل الأطراف عبر إرسال إشارة إيجابية للأكراد من جهة، وتطمين جمهور عربي وقومي يخشى من التفكك من جهة أخرى، وهذه البراغماتية تظل لغة إدارة أزمة وليست رؤية استراتيجية، فلا تقدّم آليات عملية لإدماج الأكراد، وهي صيغة تتحول إلى فخ مزدوج فلا تُرضي الأكراد الذين يرون فيها مجرد خطاب إنشائي بلا التزامات، ولا تقنع القوى الأخرى التي تشكك في نيات الإخوان وتتهمهم بمجاراة الجميع بلا مواقف حاسمة، فما يحدث إرجاء سياسي مقصود للحسم في قضايا السلطة والهوية، لا يبني توافقا مستداما، يُبقي الملف الكردي قنبلة موقوتة مؤجلة.
الثبات في الخارج والتردّد في الداخل: فلسطين كملاذ رمزي
يواصل خطاب الإخوان حضوره التقليدي في إدانة إسرائيل والتضامن مع غزة، وهو ما يمنح الجماعة رأس مال رمزيا سريع الاستهلاك؛ خطاب يسهل إنتاجه ويجد صداه في وجدان قطاعات واسعة من السوريين والعرب، ويعيد للإخوان صورتهم كحركة تقف في “الخندق الأخلاقي” ضد الاحتلال، لكنه أيضا ملاذا آمنا حيث لا يكلف الجماعة تنازلات داخلية، ولا يفرض عليها مواجهة تعقيدات الواقع السوري، بل تسمح لها بتجديد الشرعية عبر استدعاء عدو خارجي مشترك.
بينما تتكرر البيانات المنددة بالعدوان الإسرائيلي، تغيب اللغة نفسها عند الحديث عن المجازر في الساحل والجنوب أو ملف المقاتلين الأجانب وضمهم إلى الجيش، فاختارت الجماعة الصمت أو العبارات العامة عبر سياسة الامتناع التي لا تشكل حيادا بل اختيارا سياسيا. غير أن هذا الصمت، وإن كان براغماتيًا، يضعف شرعية الجماعة الأخلاقية.
هنا تنكشف المفارقة عبر “خطاب” حازم ضد إسرائيل، مقابل صمت أو تعويم إزاء قضايا محلية تمسّ السوريين مباشرة.
تحويل التهديد إلى فرصة: أزمة الدعوة إلى الحلّ
حين دعا موفق زيدان إلى حلّ الجماعة، ردّ الإخوان باعتبار الدعوة “اجتهادا شخصيا” وأكدوا أنهم “إضافة”، فمارسوا سياسة تحويل التهديد إلى فرصة تجنّب المواجهة المباشرة وتقديم أنفسهم كعامل استقرار، ما يكشف أنهم لا يزالون رهائن شرعية ممنوحة لا شرعية مكتسبة.
خطاب الجماعة الحالي ليس معارضة بالمعنى الكلاسيكي، ولا مشاركة سلطوية كاملة، بل براغماتية معلّقة عبر دعم للعهد الجديد، واعتراف جزئي بالمظلومية الكردية، وصمت عن الملفات الأخطر، وثبات رمزي في قضية فلسطين، وهذه السياسة تحافظ على الوجود، لكنها لا تصنع مشروعا.
السياسة الحقيقية تبدأ حين تتحول اللغة إلى حياة يومية من خلال حقوق ومؤسسات، آليات إدماج، وخطاب الإخوان حتى الآن يظل خطاب رموز عبر حديث عن مواد قانونية، وشعارات إدماج، والمستقبل سيختبر مدى قدرتهم على تحويل هذه الرموز إلى ممارسات ملموسة، عندها فقط سيتضح إن كانوا فاعلا معارضا يعيد تعريف السياسة، أم مجرد لاعب براغماتي يحافظ على موقعه في فضاء مضطرب.