لحظة التوريث بوصفها امتحانا للنظام
عندما نُشر كتاب “Inheriting Syria” عام 2005، كانت سوريا تقف على عتبة تحول غامض، فخمس سنوات فقط فصلت بين رحيل الرئيس حافظ الأسد وصعود ابنه بشار، وبين إرث ثقيل ومحاولاتٍ خجولة للانفتاح، فحاول فِلينت ليفيرِت، الموظف السابق في مجلس الأمن القومي الأميركي، والمقرّب من دوائر صنع القرار في واشنطن، أن يجيب عن سؤالٍ بدا في حينه مركزياً
هل يستطيع نظام وراثي غير ديمقراطي أن يتكيّف مع متطلبات القرن الحادي والعشرين دون أن ينهار؟
من هذا السؤال، بنى ليفيرِت أطروحته التي اختصرها بعنوانٍ لافت: “امتحان النار،” فبالنسبة له، كان انتقال الحكم من الأب إلى الابن تجربة قاسية تختبر قدرة النظام السوري على البقاء، ليس فقط في وجه الضغوط الخارجية، بل أمام تحديات داخلية بنيوية تتعلق بشرعية الحكم وطبيعة الدولة نفسها.
البنية التحليلية – بين الاستمرارية والإصلاح
ينطلق ليفيرِت من مقاربة تجمع بين الواقعية السياسية والتحليل المؤسسي، فهو لا يتعامل مع سوريا كحالة معزولة، بل كجزء من منظومة إقليمية تخضع لميزان قوى معقّد، حيث تتقاطع مصالح واشنطن وتل أبيب وطهران وبيروت، ويبقى محور الكتاب هو البنية الداخلية للنظام السوري بعد عام 2000، وكيف أعاد إنتاج نفسه رغم التغيّر في الواجهة القيادية.
يرى ليفيرِت أن الرئيس بشار الأسد واجه ثلاثة خيارات استراتيجية منذ لحظة توليه الحكم:
- الانفتاح التدريجي الذي بدا ممكنا في السنوات الأولى من “ربيع دمشق”، لكنه اصطدم بسرعة بجدران الأجهزة الأمنية وبنية البعث البيروقراطية.
- الجمود السلطوي، وهو الخيار الذي اعتبره المؤلف المسار الفعلي الذي تبنّاه النظام منذ عام 2002.
- الانفجار الداخلي، الذي رأى فيه احتمالا مؤجلا لكنه متنام ما لم يحدث إصلاح حقيقي في بنية الحكم.
يلاحظ ليفيرِت أن الرئيس بشار حاول أن يوازن بين التحديث التقني والانفتاح الاقتصادي من جهة، والحفاظ على السيطرة السياسية والأمنية من جهة أخرى، وسمّى هذا النهج بـ”الإصلاح المدار” أو managed reform، الذي يشبه في منطقه محاولات الأنظمة السلطوية الأخرى في المنطقة، كالمغرب أو مصر في نهاية عهد مبارك.
قراءة في فصول الكتاب ومحاوره المركزية
يُقسّم ليفيرِت تحليله إلى ستة فصول، تتدرج من البنية الداخلية للنظام إلى علاقاته الخارجية.
في الفصل الأول، “عبء الإرث”، يعيد المؤلف تفكيك الأسس التي قام عليها نظام الرئيس حافظ الأسد؛ الدولة الأمنية، والهرمية البيروقراطية، وتحالف المؤسسة العسكرية مع الحزب الحاكم، أما الفصل الثاني، و”ترسيخ السلطة“، فيتناول عملية التوريث بوصفها حدثا مؤسسا في التاريخ السوري الحديث، ويقدّم قراءة دقيقة لدور الأجهزة الأمنية في ضمان الانتقال السلس للسلطة.
في الفصل الثالث، “إصلاح اقتصادي أم ركود مُدار” يذهب ليفيرِت إلى أن التحولات الاقتصادية التي أطلقها الرئيس بشار، مثل السماح بالمصارف الخاصة وتخفيف قبضة الدولة على بعض القطاعات، لم تُغيّر جوهر الاقتصاد الريعي القائم على الولاءات السياسية، فالقطاع الخاص الجديد ظل مرتبطا بشبكات المصالح ذاتها التي هيمنت في عهد الأب.
أما الفصول اللاحقة، فتغوص في العلاقات الإقليمية والدولية، في الفصل الرابع، “سوريا وتوازن الشرق الأوسط”، يناقش المؤلف موقع دمشق ضمن شبكة التحالفات في المنطقة، معتبرا أن التحالف مع إيران وحزب الله لم يكن خيارا أيديولوجيا بقدر ما هو تعويض استراتيجي عن فقدان العمق العربي بعد عزلتها الإقليمية.
وفي الفصل الخامس، “الولايات المتحدة وسوريا“، يرصد التحولات في السياسة الأميركية من حقبة كلينتون إلى بوش الابن، متوقفا عند لحظة 11 أيلول كمنعطفٍ مفصليٍ في علاقة واشنطن بدمشق، ويختتم الكتاب بفصلٍ يقدّم فيه “خيارات السياسة الأميركية”، داعيا إلى نهجٍ من “الانخراط المشروط” بدلا من العزلة أو المواجهة المفتوحة.
نقد المنهج والرؤية – من موظف الدولة إلى ناقدها
رغم الطابع الأكاديمي للكتاب، فإن بصمة التجربة البيروقراطية الأميركية واضحة فيه. فليفيرِت، الذي عمل مستشارا لشؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي، يكتب من داخل الإطار الذهني للمؤسسة الأميركية، عبر تقييم الأنظمة من زاوية “قابليتها للإصلاح” و”إمكانية دمجها” في النظام الدولي الذي تقوده واشنطن.
لكن المفارقة أن هذا الكتاب مثّل في الوقت نفسه بداية تحوّل فكري في مسيرة المؤلف، فبعد سنوات، سيصدر ليفيرِت مع زوجته هيلاري مان كتابه الأشهر “الذهاب إلى طهران” (Going to Tehran) عام 2013، وفيه يتخذ موقفا نقدياً جذريا من السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، داعيا إلى الاعتراف بإيران قوةً إقليمية مشروعة.
من هنا، يمكن النظر إلى «Inheriting Syria» بوصفه حلقة انتقالية بين مرحلتين في فكر ليفيرِت: الأولى تُمثّل رؤية موظف الدولة الباحث عن حلول واقعية لإدارة النفوذ الأميركي، والثانية تمثل تحول الباحث الحر الذي يرى في السياسة الأميركية نفسها أصل الأزمات البنيوية في المنطقة.
المقارنة الفكرية – من دمشق إلى طهران
المقارنة بين “Inheriting Syria“ و Going to Tehran تكشف تحوّلا في المنظور الجيوسياسي للمؤلف، ففي الأول، تبدو سوريا محور مقاومة محدود التأثير، يحتاج إلى “إصلاح” ليصبح شريكا محتملا لواشنطن، أما في الثاني، فإيران تتحول إلى مركز الممانعة الإقليمية الذي يُعيد رسم ميزان القوى العالمي.
المحور | “Inheriting Syria” (2005) | “Going to Tehran” (2013) |
المنظور الإقليمي | سوريا كدولة مقاومة محدودة النفوذ | إيران كقوة مهيمنة على محور المقاومة |
التحليل البنيوي | تركيز على مؤسسات الدولة الأمنية | تحليل للنظام الإقليمي بوصفه نتاجاً للهيمنة الأميركية |
الولايات المتحدة | الدعوة لانخراط دبلوماسي مشروط | الدعوة لتغيير شامل في العقيدة الأميركية |
التحالفات | توصيف تحالف دمشق–طهران كزواج مصلحة | اعتباره تحالفاً عقلانياً مضاداً للهيمنة |
المنهجية | واقعية مؤسسية | واقعية نقدية ذات طابع بنيوي عالمي |
هذا التحول لا يعكس فقط تبدّل المواقف السياسية، بل إعادة تعريفٍ للواقعية نفسها: من واقعية تبريرية تسعى لإدارة النفوذ، إلى واقعية نقدية تشكك في شرعية ذلك النفوذ.
الدلالات المعاصرة للكتاب
بعد مرور عقدين على صدور الكتاب، تبدو بعض استنتاجات ليفيرِت نبوئية، فتحقّق فعلا السيناريو الثالث الذي حذّر منه، الانفجار الداخلي.
غير أنّ المؤلف، رغم دقته في تشخيص البنية السلطوية، لم يستطع أن يتنبّه إلى العوامل الاجتماعية والاقتصادية العميقة التي كانت تغلي تحت سطح “الركود المُدار”، فتركيزه على المؤسسات الأمنية جعله يغفل عن التحولات الطبقية، وعن صعود نخبة جديدة استفادت من التحرير الجزئي للاقتصاد لتُعيد إنتاج الفساد بأدواتٍ حديثة.
كما أنّ اقتراحه بانتهاج سياسة “الانخراط المشروط” من قِبل واشنطن لم يجد طريقه إلى التطبيق، فالإدارة الأميركية بعد 2003 كانت منشغلة في العراق، ثم مالت إلى سياسة الاحتواء والعقوبات، وهذه السياسات، وفق ما تبيّن لاحقا لم تُضعف النظام السوري بقدر ما عمّقت انغلاقه، ورسّخت القناعة لديه بأن الحوار مع الغرب مجازفة وجودية.
في القيمة الفكرية والسياسية للكتاب
تكمن أهمية “Inheriting Syria” في أنه شكّل أحد أوائل المحاولات الأميركية لفهم سوريا “بشروطها الداخلية”، لا فقط من خلال موقعها في الصراع العربي الإسرائيلي، فهو يقدم مادة تحليلية غنية حول علاقة البنية الأمنية بالشرعية السياسية، ويمنح القارئ الغربي رؤية أقل تبسيطا عن دمشق، مقارنة بخطاب الإدارة الأميركية آنذاك.
في المقابل، يبقى الكتاب أسير المعجم السياسي الغربي الذي يربط “الإصلاح” بمقاييس التوافق مع النموذج الليبرالي، وهذا القيد المفاهيمي جعل تحليله للإصلاحات الاقتصادية والسياسية في سوريا يبدو سطحيا أحيانا، لأنه لم يُدرجها في سياقها الاجتماعي والثقافي المحلي.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن الكتاب يحتفظ بقيمة توثيقية عالية، خصوصا أنه كُتب قبل التحولات الجذرية التي شهدتها البلاد بعد 2011. فهو يُوثّق لحظة فاصلة بين سوريا الأسد الأب وسوريا ما قبل الحرب، حيث كانت البلاد ما تزال تعيش على إيقاع الوعد المؤجَّل بالإصلاح.
بين الاستشراف والسياسة
إذا كان “امتحان النار” هو العنوان الفرعي للكتاب، فإنّ التاريخ أثبت أن النار لم تكن مجرد امتحانٍ، بل تحوّلت إلى مصيرٍ شامل للبلاد، فنجح النظام في تجاوز “الاختبار” الذي صوّره ليفيرِت لما يقارب الثلاثة عقود، لكنه فعل ذلك عبر الانكماش لا التحوّل، وعبر إعادة إنتاج أدوات البقاء بدل إعادة تعريف الشرعية.
من منظورٍ بحثي، يمثّل كتاب فِلينت ليفيرِت وثيقة مفصلية في فهم العلاقة المعقدة بين الدولة والسلطة في سوريا، كما يكشف عن التحول في العقل التحليلي الأميركي من خطاب “التغيير الديمقراطي” إلى خطاب “إدارة الأزمات”.
أما من منظورٍ سوري، فهو يذكّرنا بأنّ قراءة الخارج لنا، مهما بلغت دقتها، تبقى ناقصة ما لم نكتب سرديتنا بأنفسنا.
وراثة سوريا: امتحان النار لبشار الأسد
عرض بصري تفاعلي لأهم أفكار فِلينت ليفيرِت في كتابه Inheriting Syria الصادر عن معهد بروكينغز (2005)
امتحان التوازن بين الإصلاح والاستمرارية
يصف ليفيرِت انتقال السلطة من حافظ إلى بشار الأسد كـ«امتحان نار» لنظامٍ يحاول الجمع بين تحديث اقتصادي محدود والحفاظ على البنية الأمنية القديمة.
يرى أن جوهر السلطة لم يتغير، بل أعيد إنتاجه في إطار جيلٍ جديد من النخبة السياسية والاقتصادية.
الخيارات الثلاثة أمام النظام السوري
يرجّح ليفيرِت أن النظام اختار مسار «الجمود السلطوي» منذ عام 2002، مع تجميد الإصلاحات السياسية وتقييد الانفتاح الاقتصادي.
من دمشق إلى طهران: تحوّل في الرؤية الجيوسياسية
- في كتابه عام 2005: سوريا مركز مقاومة محدود، والنظام قابل لإصلاح تدريجي.
- في كتابه عام 2013: إيران أصبحت مركز الممانعة، والنظام السوري جزء من تحالف عقلاني ضد الهيمنة الأميركية.
- تحوّل ليفيرِت من واقعية مؤسسية إلى واقعية نقدية ترى في واشنطن مصدر عدم الاستقرار.
إعداد: قسم التحليل السياسي – سوريا الغد
نتمنى الخير والسلامة لسورية وتنتهي الاختلالات التركي والأمريكي والإسرائيلي والتدخلات الإقليمية لتستقر وتعود دولة ذات سيادة و امن وامان