لم يكن التصعيد الإسرائيلي الأخير في سوريا مجرد ضربة عابرة ضمن سياق المواجهات التقليدية الممتدة منذ أكثر من عقد، بل جاء كتحول نوعي في طبيعة الاشتباك وملامح التوازن الإقليمي، فخلال الساعات الماضية، نفذت إسرائيل سلسلة من الضربات بطائرات مسيّرة في محيط دمشق، استهدفت بشكل مباشر وحدات ما يسمى “الجيش السوري”، وأسفرت وفق بيانات رسمية وتقارير حقوقية، عن مقتل ثمانية جنود وإصابة آخرين.
لم يقتصر الأمر على الضربات الجوية، بل رافقه تحرك ميداني خطير تمثل بإنزال عسكري قرب جبل الشيخ، واحتلال مواقع داخل الأراضي السورية، ما فتح الباب أمام قراءة أوسع لمعادلات الصراع في الجنوب السوري.
التحول في طبيعة الاستهداف
منذ عام 2011، اتسمت الضربات الإسرائيلية في معظمها باستهداف مخازن السلاح أو خطوط الإمداد، لكن ما حدث مؤخرا يشي بانتقال مدروس نحو استنزاف “الجيش السوري” نفسه، عبر ضرب وحداته الميدانية وفرق الإنقاذ التي تتحرك في محيط المواقع المستهدفة، هذا التحول – الذي تؤكده مصادر عسكرية وإعلامية – يعكس محاولة ممنهجة لإضعاف القدرة العسكرية السورية على المدى الطويل، باستخدام أدوات منخفضة الكلفة وفعالة في آن واحد، وعلى رأسها الطائرات المسيّرة.
إن هذا التغيير ليس تفصيلا عابرا، بل هو جزء من مقاربة أوسع تهدف إلى تغيير معادلة الردع، فلم تعد إسرائيل تركز فقط على منع نقل السلاح أو تعطيل البنية التحتية العسكرية، بل باتت ترى في أي تواجد عسكري هدفا مشروعا، باعتباره الحلقة المركزية في أي توازن إقليمي محتمل.
الخريطة التفاعلية: اضغط على النقاط لرؤية تفاصيل مواقع التصعيد الإسرائيلي الأخير في سوريا
جبل الشيخ ومعادلة الجغرافيا
الأخطر في المشهد تمثل في الخطوة الإسرائيلية المتمثلة بإنزال نحو ستين جنديا والسيطرة على مواقع استراتيجية قرب جبل الشيخ، داخل الأراضي السورية، فرغم محاولة تل أبيب تصوير العملية كتحرك “روتيني” لحماية مستوطنات الجولان، إلا أن الحقائق الميدانية تؤشر إلى تثبيت وجود عسكري إسرائيلي في نقاط تسمح بمراقبة عميقة للجغرافيا السورية.
إن جبل الشيخ لم يكن يوما مجرد موقع حدودي، بل شكل عبر عقود عقدة استراتيجية ترتبط بالسيطرة على الممرات الجنوبية نحو دمشق، فضلا عن كونه خزانا مائيا ونقطة إشراف على الامتداد السوري-اللبناني، ومن هنا فإن أي وجود عسكري إسرائيلي دائم في هذه المنطقة يعني عمليا إعادة صياغة التوازنات الأمنية والإقليمية، وإلغاء عملي لفكرة الحدود المستقرة التي نشأت منذ اتفاقية فض الاشتباك عام 1974.
البعد السياسي – حماية “الأقليات” أم إعادة إنتاج النفوذ؟
قدّمت “إسرائيل” مبررا إضافيا لتحركاتها عبر الحديث عن “حماية الأقليات” في ظل المجازر بمحافظة السويداء، وهذا التبرير يضع نفسه ضمن خطاب إنساني، لكنه في الواقع يعكس محاولة لخلق ذريعة سياسية لتوسيع التدخل العسكري، فـ”تل أبيب” تعلم أن الجنوب السوري يعيش فراغا أمنيا نتيجة الصراع الداخلي الذي سببه النظام السوري الجديد، وتحاول عبر هذه الذريعة تسويق وجودها كعامل استقرار، فيما الحقيقة أن الوجود “الإسرائيلي” يكرّس الانقسام ويحوّل الجغرافيا إلى مسرح ضغط دائم على هذا النظام ليقدم تنازلات أكبر.
الأمر لا يقتصر على الحماية المزعومة لمكوّن بعينه، بل يتجاوز ذلك إلى محاولة فرض واقع جديد على الأرض، فتحويل التدخل العسكري إلى رافعة سياسية تعزز موقع “إسرائيل” في أي مفاوضات مستقبلية حول سوريا، سواء في الإطار الإقليمي الأوسع أو عبر قنوات مباشرة مع النظام الجديد في دمشق.
أزمة التوازنات الإقليمية والدولية
يأتي هذا التصعيد في لحظة فراغ إقليمي غير مسبوقة، فالنظام الإقليمي الذي عرفته سوريا خلال العقدين الماضيين انهار عمليا، فمحور “المقاومة” انتهى ليس مع سقوط النظام السياسي السابق فقط، بل مع تبدل المعطيات الإقليمية، سواء بالنسبة لإيران أو حزب الله، بينما عجزت الدول العربية والدولية عن صياغة إطار بديل يملأ الفراغ، وفي الوقت نفسه، تستنزف الحرب الأوكرانية القدرات الدولية وتمنع ظهور منظومة توازن جديدة في شرقي المتوسط.
هذه المعادلة تجعل من سوريا مساحة اختبار لا ساحة قرار، فالقوى الدولية تراقب وتدعم من بعيد، لكنها لا تبني حلولا ولا تدخل في إعادة صياغة حقيقية للتوازنات، لذلك، يصبح التصعيد “الإسرائيلي” جزءا من إدارة هذا الفراغ، مستفيدا من غياب ردع دولي حاسم، ومراهنا على هشاشة البنية السورية الداخلية.
دمشق أمام معادلة معقدة
الرد السوري الرسمي على الضربات الأخيرة جاء عبر بيانات تنديد وتحذير من “انتهاك صارخ للقانون الدولي”، لكن الواقع السياسي والعسكري أكثر تعقيدا، فالجيش السوري وفق عقيدة الصراع السابقة تم حله لحساب قوى الميليشيات” التي قادت عملية اسقاط النظام السابق، وسوريا اليوم أمام استراتيجية إسرائيلية تقوم على الضم البطيء، بينما الدبلوماسية السورية لا تبدو مهتمة بالأبعاد العميقة للتصعيد الأخير، فعلى بعد بضعة كيلومترات من الاستهداف “الإسرائيلي” كانت الحكومة تحتفل بافتتاح معرض دمشق الدولي وبحضور الرئيس الانتقالي أحمد الشرع.
النظام في دمشق أمام معضلة مركبة؛ فهو من جهة يتجاهل أي احتمالات للدخول في مواجهة مفتوحة تعيد سيناريوهات الحروب السابقة، ومن جانب آخر يعبر بالسكوت أمام هذا النوع من التصعيد بقبول ضمني بتغيير قواعد اللعبة، والأخطر هو غياب برامج سياسية وطنية قادرة على خلق تماسك داخلي، ما يجعل الرد السوري أسيرا لاعتبارات اللحظة، بدل أن يكون جزءا من رؤية استراتيجية تعيد إنتاج موقع سوريا في الإقليم.
ما وراء الضربات
الرسالة “الإسرائيلية” واضحة عبر مفهوم جديد، فتوسيع مسرح العمليات داخل سوريا لم يعد خطا أحمر، والاستهداف المباشر للوجود العسكري قرب جبل الشيخ، يعكس انتقالا نحو مرحلة جديدة حيث تحاول “إسرائيل” فرض وقائع جغرافية – عسكرية، مع تغليفها بخطاب إنساني وسياسي، في المقابل، يبدو النظام السوري الجديد في دمشق تائهاً بين هشاشة التوازنات الإقليمية وغياب الرؤية الوطنية الداخلية.
لكن خطورة هذا التصعيد لا تقتصر على الداخل السوري، بل تمتد إلى المشهد الإقليمي ككل، فكلما تعزز الوجود الإسرائيلي في الجنوب، كلما تراجعت فرص بناء تسويات مستقرة، وكلما أصبح الشرق الأوسط أكثر عرضة لدوامات عنف متجددة، ما يجري اليوم ليس مجرد مواجهة حدودية، بل خطوة إضافية في إعادة رسم خرائط النفوذ على حساب سوريا وسيادتها.
لا يمكن قراءة التصعيد الأخير كحدث معزول، بل كمؤشر على مرحلة انتقالية خطرة تتسم بغياب التوازنات، وتعدد اللاعبين، وانكفاء النظام الدولي عن التدخل المباشر، ووسط هذا المشهد، تتحول سوريا مرة أخرى إلى ساحة اختبار، فيما يبقى السوريون في الداخل أمام معضلة الحفاظ على وطنهم بين ضغط الخارج وانقسام الداخل وسياسات الإقصاء بالقتل والمجازر، وبين حاضر يستنزفهم ومستقبل لم تتضح معالمه بعد.
What is left of Syria?