كيف تعيد إسرائيل رسم خريطة الأمن الإقليمي؟ تحليل ضربات سوريا وقطر 2025

لا تُرسم الخرائط في الشرق الأوسط، بالبوصلة، بل بالصواريخ، فالمنطقة ليست فسيفساء شعوب وثقافات، بل لوحة صراع بين المفاهيم الأمنية والسياسات الحدودية المتحركة.

وسط هذا المشهد الجغرافي المتوتر، تتصرّف “إسرائيل” كما لو أنها القوة الوحيدة التي تحتفظ بحق تعيين مراكز الثقل في الإقليم، ليس عبر التفاوض فقط، بل بالقوة الاستباقية، ففي زمنٍ يتآكل فيه اليقين الاستراتيجي، حيث لم يعد الردع كافيا وحده، تسعى “تل أبيب” إلى ترسيخ مفهوم أمني إقليمي جديد لا بمعناه الدفاعي فحسب، بل كإطار للسيطرة والتوجيه؛ تملكه وتعيد إنتاجه وفق تصوّرها لما يجب أن يكون عليه التوازن.

تجلّت هذه النزعة بوضوح خلال أوائل أيلول 2025، عندما نفّذت إسرائيل سلسلة ضربات جوية مركّزة على أهداف في محيط حمص واللاذقية وتدمر، ثم ما لبثت أن وسّعت نطاق عملياتها نحو قلب العاصمة القطرية الدوحة، مستهدفة ما قيل إنها قيادات في حماس.

لم تكن هذه الضربات مجرّد عمليات تكتيكية معزولة، بل تعبيرا عن منظور شامل يربط الأمن بالمبادرة، والمخاطر بالفرص، فانقلب المشهد، وما كان يُعدّ يوما أنه “الخطوط الحمراء” الجغرافية، بات اليوم قابلا للاختراق تحت شعار الدفاع الاستباقي، لتقول “إسرائيل” بذلك إن أمنها يبدأ من دمشق والدوحة، لا من “تل أبيب” فقط.

الضربات: من دمشق إلى الدوحة—رسائل متعددة الأوجه

ضربات “إسرائيل” على محيط حمص واللاذقية وتدمر في ليلة 7–8 أيلول 2025 تبدو أكثر من عمليات تكتيكية عابرة؛ إذ استهدفت مستودعا ذخيرة ومعدات عسكرية حديثة، بينها أنظمة دفاع جوي وصواريخ صنعت في تركيا وتمّ نقلها إلى سوريا حديثا، وحسب تقارير لبعض الفضائيات العربية وضعت تلك الأسلحة ضمن موقع قرب كلية الدفاع الجوي في حمص، إضافة إلى مستودع ذخيرة في بلدة مسكنة جنوب المدينة، كما تضررت ثكنات عسكرية في منطقة ساقوبين قرب اللاذقية، ما أطلق انفجارات قوية رغم عدم ورود تقارير أولية عن خسائر بشرية.

هذا التوزيع الدقيق للأهداف يشير إلى نوايا “إسرائيلية” مزدوجة، فهي تريد حرمان السلطة الجديدة في دمشق من ترسانة متطورة وفّرتها أنقرة حسب بعض التقارير لدعم السلطة الجديدة في دمشق، ومن جانب آخر تعلم “إسرائيل” بأنها لن تتوانى في تدمير أي تهديد، حتى لو كان أنظمة دفاعية تركية أو معدات عسكرية مدنية؛ ضمن رسالة واضحة إلى كل من السلطة في دمشق وتركيا نفسها.

“التصور الإسرائيلي” للأمن الإقليمي: الهيمنة بالضغط المزدوج

من منظور الجغرافيا تستطيع “إسرائيل” اعتبار هذه الضربات تجسيدا لما يمكن تسميته “الدولة – الحارس الإقليمي”، فتبريراتها تستند إلى:

  1. الإبقاء على سوريا مساحة هشة ومنع تحوّلها سوريا إلى رعاية عسكرية تركية أو حتى عربية أو مكان عبور لقوى تستطيع تهديد العمق الإسرائيلي.
  2. توجيه رسائل ردع إقليمية شاملة عبر ضرب مواقع تغير المعادلات بخصوص التفاوض مع حماس وتقليص الدور الفطري، فالرسالة مفادها أن “إسرائيل” لن تلتزم بعد الآن “المجال الجوي الآمن” للدول الداعمة للفصائل المقاومة، حتى لو كانت هذه الدول وسطاء في النزاع.

هذا التصوّر لا ينبثق من فراغ، بل يجد جذوره في “العقيدة الإسرائيلية” التي عبّر عنها ما يُعرف بـ”مشروع دانيال”، وهي وثيقة استراتيجية أعدّها فريق من الخبراء الأمنيين الإسرائيليين مطلع الألفية الثالثة، وقدّمت مباشرة إلى رئيس الوزراء آنذاك، بنيامين نتنياهو.

المشروع لم يكن مجرد تقرير؛ بل بمثابة مانيفستو أمني يستند إلى فلسفة ردعية ترى أن الغموض المدروس أقوى من الشفافية، وأن الضربة الاستباقية ليست خيارا بل ضرورة وجودية في بيئة غير قابلة للتنبؤ، وفي نظر واضعي المشروع على إسرائيل أن تحافظ على ما يُعرف بـ”الغموض النووي البنّاء”، وأن تلوّح بالقوة دون أن تُظهرها كاملة، وأن تُبقي خصومها في حالة حساب دائم للكُلفة، فالمشروع يدفع باتجاه ضربات موضعية موجهة، تأتي في توقيتات دقيقة لا تُبقي مجالا للخصم لالتقاط أنفاسه أو بناء تموضع مستقر.

الضربات الأخيرة في سوريا وقطر تجسيد عملي لهذا المنطق عبر استهداف مواقع لا لأنها تُشكّل خطرا راهنا، بل لوجود احتمال تحولها نقاط ارتكاز مستقبلية، وهذه السياسة تقوم على “القتل في المهد”، وليست فقط على الرد على تهديد وقع، فـ”إسرائيل” تتصرف  كما لو أنها القائد الأخير في رقعة شطرنج منهارة، وكل حركة فيها يجب أن تكون إعلانا ضمنيا لمن يراقب عن بعد بأن أمنها ليس موضع تفاوض.

رؤية إسرائيل للأمن الإقليمي

ترتيب مكونات العقيدة الأمنية الإسرائيلية (2025)

بنيان الأمن الإقليمي الإسرائيلي: تحالفات جديدة وتوازن موازٍ

في منظور أشمل يبدو أن “إسرائيل” تبني نموذجا للأمن الإقليمي يقوم على:

  • توسيع “اتفاقيات إبراهيم” وخلق حلف إقليمي من التناغم مع دول الخليج معتمد على الأمن البحري وتبادل استخباراتي ولو ضمن نطاق محدود وعملي.

في منظور أشمل، تبدو “إسرائيل” عازمة على هندسة نموذج للأمن الإقليمي يقوم على توسيع “الاتفاقيات الإبراهيمية” وخلق حلف مرن مع دول الخليج، يستند إلى الأمن البحري وتبادل استخباراتي، وإن ضمن نطاق محدود وعملي، لكنّ هذا المشروع لا يُقرأ باعتباره تحالفا غير مشروط، بل كمنظومة مصالح قابلة لإعادة الضبط متى ما اقتضت المعادلة الأمنية ذلك، قصف الدوحة لا يشكل نفيا لمشروع التنسيق الإقليمي، بل ترسيما لحدوده وفق الرؤية الإسرائيلية، فالشراكة مُمكنة، لكنها تسقط حيث تبدأ استضافة من تصنّفهم تل أبيب خصومًا مباشرين.

  • هذا التوجه يتماهى مع رؤية تُصوّر الشرق الأوسط كبنية جيوسياسية جديدة، تتجاوز فيها إسرائيل، إلى جانب دول كالهند والإمارات، كقاطرة تنسيق أمنية إقليمية بديلاً عن التوازنات التقليدية.

هذا التوجه يتماهى مع رؤية تُصوّر الشرق الأوسط كبنية جيوسياسية جديدة، لا تقوم على توازنات راسخة بل على تحالفات مرنة تُعيد تشكيل نفسها باستمرار، وفي هذا المشهد، تبرز “إسرائيل”، إلى جانب قوى كالهند والإمارات، كقاطرة تنسيق أمني إقليمي لا تتردّد في الجمع بين الشراكة والضغط، والدبلوماسية والقوة.

إنها منظومة لا تستبعد الضربات الجوية من معادلتها، بل توظّفها لتأطير الشراكات وفق شروط ردعية تُبقي لها اليد العليا، بعبارة أخرى، الأمن الإقليمي الجديد لا يُبنى على الثقة وحدها، بل على الامتثال المدعوم بالتفوق.

انعكاسات على الاستقرار الإقليمي: هل تخدم التفوق أم تصنع دوامة؟

رغم أن التحركات الإسرائيلية تمكنها من بسط نفوذ سريع، فإن آثارها على الأمد المتوسط تثير أسئلة:

  • تصريحات غربية وعربية تحذر من أن مثل هذه الضربات تهدد وقف إطلاق نار هش وتشعل نيران التصعيد.
  • التوحد السياسي والدبلوماسي العربي حول إدانة هذه الخطوات، سواء من تركيا أو بريطانيا أو دول الخليج، تظهر أن العزلة الإسرائيلية قد تصبح دبلوماسية أيضا.

إذا اعتبرنا المنطقة سيرا مستمرا نحو إعادة تشكيل جيوسياسي، فإن “إسرائيل” تحاول رسم خطوط جديدة لإزاحة موازين القوى.

  1. استهداف نقاط محورية داخل دول باتت تدور في فلك المحور القطري–التركي، وعلى رأسها سوريا التي انقلبت اصطفافاتها الإقليمية بعد انهيار نظامها القديم.
  2. تمديد النفوذ خارج الجغرافيا التقليدية، وحتى إلى دول مثل قطر، صانعة السلام.
  3. بناء تحالفات جديدة ليست فقط اقتصادية، بل أمنية واستراتيجية—تضع إسرائيل في موقع مركز إشعاع أمني إقليمي.

لكن هذه الاستراتيجية تقود إلى شق في النسيج الدبلوماسي الإقليمي، فهي تؤدّي إلى:

  • ضغوط عربية وغربية مكثفة تعزل “إسرائيل” مؤقتا.
  • خلق احتمالات مفاجئة لتصعيد غير محسوب ومن خارج الأطر التقليدية التي كانت سائدة.

في النهاية، “إسرائيل” من خلال هذا السلوك تؤكد أنها لا ترى في الشرق الأوسط جغرافية للعيش المشترك، بل ساحة تتطلب تصميم معالم أمنها القومي بيدها، بالضرب الاستباقي، وتحالفات الفصل المشترك، والمشهد الماثل أمام المنطقة والعالم، هو في احتمالين: الامتداد أو الانزلاق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *