في قلب التحولات السورية الراهنة، برزت الأحزاب الكردية كأحد أهم الفاعلين في مشهد المعارضة تجاه السلطة الجديدة في دمشق.
خطابها لم يعد مجرد مطالبة بهوامش إدارية أو حقوق ثقافية، بل تحوّل إلى مشروع سياسي يسعى لإعادة تعريف موقع الأكراد داخل الدولة السورية، ويتجسد هذا الخطاب في صراع مشروع على ترسيم حدود الهوية والسيادة، حيث تتقاطع المطالب الكردية مع أسئلة التمثيل والشرعية والاعتراف؛ لتصبح جزءا من معركة تأسيسية على معنى سوريا الجديدة.
ملامح السياق الجديد
أدى سقوط النظام السابق إلى فتح المجال أمام سلطة جديدة هجينة تمزج بين خطاب ثوري يزعم تمثيل الشرعية الشعبية، وبين نزعة مركزية متصلّبة تسعى إلى إعادة إنتاج مفهوم الدولة الموحدة دون أي تصدعات.
هذه السلطة، بقيادة أحمد الشرع، وضعت منذ اللحظة الأولى خطوطا حمراء واضحة رافضة الفيدرالية جملة وتفصيلا، وتمسكت بشكل غير القابل للمساومة بوحدة الأرض، والاكتفاء بلامركزية إدارية محدودة الطابع، لا تمس جوهر السيادة ولا بنية القرار السياسي، وهذا التوجه يعكس خشية السلطة الجديدة من أن تتحول أي تنازلات واسعة إلى مدخل لإعادة إنتاج الانقسام أو لتقويض شرعيتها الوليدة.
في المقابل، دخلت الأحزاب الكردية إلى الساحة بخطاب يتجاوز المطلب الإداري البسيط ليطرح سؤال الاعتراف السياسي والثقافي، فهي تطالب بضمانات دستورية للوجود القومي الكردي، وبنظام لا مركزي يتيح مشاركة فعلية في إدارة الشأن العام.
يظهر خطاب الأحزاب الكردية عبر صراع تأسيسي على حدود السيادة، فهو مواجهة لا بين طرف يسعى إلى تفكيك الدولة وآخر إلى الحفاظ عليها، بل بين مشروع يريد إعادة تعريف السلطة عبر دمج الهويات المختلفة ضمنها، ومشروع يسعى إلى حماية مركزية الدولة عبر تحييد هذه المطالب أو تأجيلها.
ثانياً: خطاب قوات سوريا الديمقراطية/حزب الاتحاد الديمقراطي قسد PYD))
أخذت قسد موقع اللاعب الأكثر ثِقلا، فبعد سقوط النظام سارعت إلى توقيع اتفاق في 10 آذار 2025 بين قائدها مظلوم عبدي وأحمد الشرع، يقضي بدمج مؤسسات الإدارة الذاتية، مدنية وعسكرية، ضمن الدولة السورية، فهذا الاتفاق، رغم طابعه العملي، يعكس استراتيجية خطابية مزدوجة:
- من جهة، تُعلن قسد الولاء الرمزي للدولة الجديدة عبر رفع العلم السوري المُعدّل في بعض المؤسسات.
- ومن جهة أخرى، تُصرّ على أن دمج مؤسساتها يجب أن يتم مع الحفاظ على هوية محلية كردية، أي نوع من “الذاتية” التي لا تذوب في المركزية.
يُمكن قراءة خطاب قسد بوصفه محاولة لإعادة تعريف مفهوم السيادة لا عبر الانفصال، بل عبر تقاسم السلطة داخل إطار جامع، لكن العقبات تتضح سريعا عبر رفض السلطة لأي صيغة تتجاوز اللامركزية الإدارية، وضغوط تركيا التي ترى في أي اعتراف بقسد تهديدا لأمنها القومي.
ما حدث بين قسد والسلطة في دمشق مفاوضة مستمرة على “حدود الممكن”، حيث السلطة تعيد إنتاج “العدو الداخلي” عبر خطاب التخوين والعمالة لـ”العمال الكردستاني”، بينما ترد قسد بخطاب “الشريك الضروري لوحدة سوريا.”
خطاب المجلس الوطني الكردي (ENKS)
على النقيض، يطرح المجلس الوطني الكردي خطابا يتسم بالحذر المزدوج؛ الأول من السلطة الجديدة والثاني من هيمنة قسد، فانسحابه من الائتلاف الوطني في شباط 2025 لم يكن فقط خطوة تنظيمية، بل إعلانا عن إعادة تموضع في الفضاء السياسي الجديد، فالمجلس يصرّ على الاعتراف الدستوري بالشعب الكردي، والمشاركة المستقلة في التفاوض مع دمشق.
الخطاب هنا يقوم على إنتاج “نحن” مختلفة وليس فقط “نحن الكرد” ضد المركز، بل أيضاً “نحن المجلس” ضد “التمثيل الاحتكاري لقسد”، فتعددية الأصوات المعارضة حسب هذا الخطاب ليست ضعفا، بل شرط ديمقراطي، حيث كل طرف يصوغ خصومته بطريقة تفتح أفقا للصراع المشروع.
لكن هذه التعددية نفسها تمنح السلطة فرصة للاستثمار في الانقسام، إذ يمكن للشرع أن يتعامل مع طرف كردي واحد، مفضلا قسد أحيانا أو المجلس أحيانا، ليُبقي المعارضة الكردية في موقع التنافس الداخلي بدل التفاوض الموحد.
خطاب أحزاب الوحدة الوطنية
أحزاب الوحدة الوطنية الكردية والأحزاب الأصغر تحاول أن تُدخل نفسها في المشهد عبر خطاب “الوحدة”، فمؤتمر القامشلي في نيسان 2025 مثّل محاولة لصياغة موقف كردي مشترك، يطالب بدستور ديمقراطي لا مركزي وبحقوق مكرّسة للمرأة والأقليات.
هذه المحاولة تكشف التوتر بين “الائتلاف” و”التمثيل” فهل تكون الوحدة مجرّد واجهة رمزية أم قاعدة فعلية لخلق “كتلة تاريخية”؟
الخطاب هنا يتأرجح بين الرغبة في التوافق والخوف من التهميش، والسلطة تستفيد من هذا التردد عبر إدارة الزمن عبر تأجيل الاجتماعات، والمماطلة في تطبيق الاتفاقات، وإبقاء الأحزاب الكردية الأصغر في موقع انتظار، حيث تتحول مطالبهم إلى أوراق ثانوية في لعبة التفاوض الكبرى.
الاتفاقات بوصفها أدوات رمزية
اتفاق شرع–عبدي ومؤتمر وحدة الصف في القامشلي ليسا مجرد وقائع سياسية، بل أدوات رمزية تُعيد تشكيل المخيال السياسي السوري، ففي هذه اللحظات يتم تأسيس “الهيمنة” عبر بناء معنى جديد؛ فالكرد ليسوا مجرد أقلية مهمشة، بل شركاء محتملون في إعادة بناء الدولة، ومع ذلك، تبقى هذه الرمزية مهددة بالانهيار إذا لم تتحول إلى مؤسسات وضمانات دستورية.
من خلال تتبع المواقف، يمكن تلخيص المعضلات الأساسية التي تواجه الخطاب الكردي:
- التمثيل فمن يملك حق التحدث باسم الكرد؟ قسد أم المجلس الوطني أم جبهة موحدة؟
- صيغة الحكم فهل تكفي اللامركزية الإدارية، أم أن الكرد سيدفعون باتجاه لا مركزية سياسية أوسع؟
- الضمانات الدستورية فكيف يمكن تحويل المطالب إلى نصوص قانونية تحميها من تقلبات السلطة؟
- العامل الخارجي فتركيا وأميركا، وأوروبا كلها فواعل تضغط على تعريف الكرد لذاتهم داخل سوريا.
في كل معضلة، نجد صدى بأن السياسة ليست توافقا بل صراعا دائما على الحدود، على تعريف الـ”نحن” و”الآخر”، على من يدخل ومن يُقصى من دائرة الشرعية.
إلى أين؟
تدل المؤشرات الراهنة على أن المعارضة الكردية في سوريا نجحت في فرض نفسها كفاعل لا يمكن تجاوزه، غير أن قدرتها على تحويل هذا الاعتراف إلى مؤسسات دستورية لا تزال رهينة لعوامل ثلاثة:
- إرادة السلطة الجديدة ومدى استعدادها لتجاوز الخطوط الحمراء نحو تسوية أكثر عمقا.
- وحدة الصف الكردي عبرقدرة الأحزاب على تجاوز الانقسامات وبناء خطاب مشترك.
- الضغط الدولي والإقليمي، وتحديدا الدورينالتركي والأميركي في رسم حدود الممكن.
نحن أمام مشهد أغوني (agonistic) بامتياز الذي يعني مواجهة بين خصوم يتنافسون داخل فضاء سياسي مشترك، وهنا تتحدد وظيفة الخطاب الكردي ليس فقط بالمطالبة بالحقوق، بل إعادة تعريف سوريا الجديدة بوصفها فضاءً تعدديا لا مركزيا.
ما بعد 8 كانون الأول 2024 ليس مجرد انتقال سلطة، بل إعادة تأسيس للمخيال السياسي السوري، فالأكراد، بخطابهم المختلف والمتعدد، يختبرون حدود الممكن في مواجهة سلطة ناشئة تتوجس من أي إعادة تعريف للسيادة، وفي النهاية، لا يُقاس نجاح المعارضة الكردية فقط بما تحققه من مكاسب دستورية، بل بقدرتها على أن تظل خصما شرعيا داخل فضاء سياسي ديمقراطي مفتوح، حيث تُصاغ الهوية السورية من جديد، ليس ككتلة صلبة، بل كنسيج متعدّد ومتناقض، يمكن وصفه بسياسة بلا نهاية، وصراع بلا حسم، لكنه صراع يضمن الحياة الديمقراطية.
رادار تفاعلي: الأحزاب الكردية وموقعها في المشهد السوري
يعرض هذا الرسم تقييمًا نسبيًا لمواقف الأحزاب الكردية وفق خمسة معايير سياسية (من 1 إلى 5)
يمكنك النقر على عناصر وسيلة الإيضاح لإظهار/إخفاء المجموعات