المجزرة المعلنة: مراجعة تحليلية لسردية الدولة وسلوكها في الساحل

ما الذي يدفع سلطة مازالت دون القدرة على بناء شرعية انتقالية إلى تبنّي رواية ضبابية حول مجازر بحجم جرح وطني؟ من يحاول كتابة التاريخ بمداد الإنكار لا بالمكاشفة؟ ولماذا تصمت الدولة حين يتحدث الضحايا؟

في آذار 2025، ارتُكبت مجازر مروعة في الساحل السوري، حصدت أرواح الكثير من المدنيين، ضمن موجة عنف طائفي شملت مدنا ساحلية، والحدث، بصورته الجغرافية والديمغرافية، ليس جديدا في التاريخ السورية للمرجلة العثمانية تحديدا، لكن الجديد فيه شكل الاستجابة الرسمية، الكيفية التي حاولت بها اللجنة الرسمية تأطير الحدث في تقريرها الصادر في 22 تموز 2025.

بخلاف ما أورده تحقيق رويترز في 30 حزيران، والتقارير الميدانية للأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية، جاءت الرواية الرسمية مصاغة في قالب يهدف إلى التبرئة السياسية أكثر من كشف الحقيقة، وهنا، يمكن قراءة السلوك الحكومي، لا كمحاولة لفهم الواقع، بل كإنتاج سردية موازية لإدارة أزمة شرعية تعصف بالحكم الانتقالي.

أرقام الموت: اختلاف الدلالة لا الكم

أقرت اللجنة الرسمية بسقوط 1,426 ضحية، بينما وثّقت رويترز مقتل 1,479 شخصا خلال نفس الفترة، مشيرة إلى أن الغالبية الساحقة قضت خلال 48 ساعة فقط.

من الناحية الرقمية، يبدو الفرق طفيفا، لكنه يفتح الباب لتساؤلات أكبر حول نوايا التوثيق الرسمية ومقاصدها، ففي حالات المجازر، لا تُقاس الحقائق بالعدد بل بالسياق، ولا يُفهم الإحصاء كحساب رياضي، بل كأداة تأويل سياسي.

هذا الفارق العددي ليس مجرد تفصيل إجرائي، بل تكتيك ممنهج، فكلما انخفض الرقم الرسمي، انخفض معه وزن الحدث القانوني والأخلاقي، وتقلّصت احتمالات الملاحقة الدولية، التقليل العددي يتحول إلى ما يشبه التماسك السردي الذي يربط الحدث بفكرة “الانفجار العشوائي”، لا بـ”القتل المنظم”، ويخدم في نهاية المطاف استراتيجية إنكار المسؤولية المركزية وتحويل المجزرة إلى نتاج صراع أهلي بلا رأس ولا تخطيط.

التنظيم المزعوم: من الفوضى إلى البنية

بينما تصرّ اللجنة على توصيف ما حدث كـ”رد فعل شعبي” غير مركزي، أعقب هجوما على القوات الأمنية، توصلت التحقيقات المستقلة إلى نتائج أكثر تعقيدا ومتانة، فالأدلة التي قدمتها رويترز ومنظمات حقوقية تشمل وجود قوائم معدّة مسبقا بأسماء مستهدفة، وتنسيق عبر قنوات تلغرام، إلى جانب مشاركة مجموعات شبه نظامية ترتبط مباشرة ببنى أمنية نشطة، هذه المعطيات تقوّض الرواية الرسمية التي تبدو أقرب إلى تعميم غامض يراد به تمييع الفعل وطمس المعالم التنظيمية خلفه.

ما يثير الريبة أكثر هو أن هذه ليست المرة الأولى التي تُستخدم فيها سردية “الفعل المنفلت” لتبرير جرائم منظمة رغم أنها متفرقة، فاعتمدت السلطة على منطق التعتيم البنيوي الذي ينكر التوجيه ويعزو كل شيء إلى الانفعالات الشعبية أو “حوادث فردية” بذلك، يتحول الإنكار الرسمي للتخطيط من مجرد دفاع سياسي إلى ممارسة منهجية تهدف إلى إبطال المحاسبة، وتجعل من الدولة نفسها حكما وخصما في آن.

العدالة المؤجلة: مساءلة انتقائية

رغم إعلان اللجنة عن إحالة 298 مشتبها إلى القضاء، إلا أن الواقع يظهر صورة مغايرة تماما، حيث لم يُعتقل سوى 31 شخصا حتى لحظة النشر، وهذا التفاوت الفاضح بين حجم الملف المعلن وعدد الموقوفين الفعليين يضعنا أمام مشهد عدالة مشوهة، أقرب إلى أداء علاقات عامة منه إلى مسار قضائي جاد، فبدلا من أن يكون القضاء أداة لمواجهة الجريمة، يتحول إلى مسرح رمزي لاحتواء الغضب، دون المساس بالبنى التي أنتجت العنف.

الأخطر من ذلك أن توصيف الجرائم ظل قاصرا لغويا وقانونيا، إذ لم تُدرج في التقرير تحت بند “الجرائم ضد الإنسانية”، رغم توافر معظم شروط هذا التصنيف وفق القانون الدولي، من القتل الممنهج، والاستهداف الطائفي، والتواطؤ الرسمي، والانتهاك الواسع لحقوق الإنسان؛ هذا الإحجام عن التوصيف الدقيق لا يمكن فهمه إلا كجزء من استراتيجية أوسع لتجنيب القادة العسكريين والسياسيين الملاحقة، وهو ما يتعارض كليا مع مبدأ العدالة الانتقالية التي طالما رُفع شعارها منذ سقوط النظام السابق.

منهجية مغلقة: تحقيق بلا مراقبين

اعتمدت اللجنة على شهادات من 930 شخصا، لكنها اقتصرت على جهات رسمية، في تجاهل شبه تام للأصوات المستقلة أو المنظمات غير الحكومية، تقارير مثل رويترز و”هيومن رايتس ووتش” اعتمدت في المقابل على أدلة رقمية، ومقابلات ميدانية، ومصادر محايدة، والتباين هنا ليس تقنيا، بل سياسي بامتياز، فتحقيق اللجنة مُوجّه لتعزيز مصداقية القيادة الانتقالية، لا لكشف الحقيقة.

وتميل الرواية الحكومية إلى تفسير المجازر بوصفها انفجارا أهليا، وتنزع عنها طابع التوجيه المركزي، وهذا الخيار السردي يشي بخوف عميق من الاعتراف بأن السلطة نفسها “ربما” تكون جزءا من آلية العنف، لكن هذا الإنكار لا يوقف دائرة الدم، بل يطيل أمدها عبر استبطان منطق الإفلات من العقاب.

التوصيات الرسمية: إصلاح أم مناورة؟

الحديث عن قوانين جديدة لضبط الخطاب الطائفي، وتفعيل العدالة الانتقالية، يبدو جيدا على الورق، لكن بدون قضاء مستقل، ورفع الغطاء عن الفصائل العسكرية، تبقى هذه المقترحات فارغة من مضمونها.

التقارير الحقوقية تطالب بخطوات أكثر صرامة؛ إشراك هيئات دولية في التحقيق، ورفع الحصانة عن قيادات عليا، وتدويل ملف المجازر، ورفض الحكومة لهذا المسار يكشف أن المعركة الحقيقية ليست حول المجزرة ذاتها، بل حول من يملك حق تأويلها.

السياسة ليست فقط ما تقوله الدولة، بل ما تتجنّب قوله، ففي سوريا 2025، يبدو أن اللغة الرسمية مصممة للنجاة لا للمكاشفة، والتقرير الرسمي حول مجازر الساحل هو نص دفاعي، لا تقصيّ حقيقي، فهو يسعى إلى إعادة هندسة الإدراك العام عبر تقليص الحدث، وتعويم المسؤوليات، واحتواء ردود الفعل الدولية.

1 فكرة عن “المجزرة المعلنة: مراجعة تحليلية لسردية الدولة وسلوكها في الساحل”

  1. اتباع سياسة الإنتقام من قبل سلطة الأمر الواقع التي تضم في صفوفها فصائل إرهابية مجرمة ، يدلل على أنها تمثل سياسة الإرهاب المبني على ايديولوجية التكفير التي لاتعترف بحق من لايوافقها الرأي بل ولاتقبل أي حوار عقلاني .
    هذه العصابة سرقت سوريا وحولتها إلى دولة منزوعة الإرادة والكرامة أمام العدو الصهيوني الفاشي ، وحولت الشعب السوري إلى رهائن ، شعارها القتل والتطبيع وإنتهاك كرامات الناس ، هذه السياسة تقود سوريا إلى حقبة جديدة ذات مستقبل قاتم .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *