موسكو ودمشق: تحالف الضرورة في زمن إعادة التموضع السوري الروسي

في السياسة كما في الجيولوجيا، لا يحدث الزلزال إلا حين تتراكم التصدّعات تحت السطح، وزيارة رئيس الحكومة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع إلى موسكو ليست مجرّد حدث دبلوماسي روتيني، بل الزلزال الجيوسياسي الذي طال انتظاره في العلاقة بين موسكو ودمشق؛ علاقة امتدت على سبعة عقود من التحالف، والدم، والبراغماتية، والرماد.

لكن خلف الصورة البروتوكولية للّقاءات المعلنة، ثمّة صراع أعمق يدور بين روح أوراسيا القديمة التي تمثّلها روسيا، وروح المشرق المتحوّل التي تحاول سوريا الجديدة، الممزقة بين الشرعية المؤقتة والانتظار الطويل، أن تجسّدها.

نحن أمام مرحلة إعادة تعريفٍ للهوية السياسية والجغرافية لكلتا الدولتين في نظام عالمي يتهاوى، حيث لم تعد التحالفات تُملى من الأعلى، بل تُكتب من رماد المدن التي تغيّرت فيها معاني النصر والهزيمة.

نهاية عهد “الوصاية المتبادلة

منذ أن وطأت أقدام المستشارين العسكريين السوفييت دمشق في خمسينيات القرن الماضي، كانت العلاقة بين روسيا وسوريا تقوم على معادلة صلبة؛ فموسكو تُزوّد السلاح وتحمي النظام سياسيا على الأقل في المحافل الدولية، وذلك مقابل التحالف السياسي والموقع الجيوستراتيجي في قلب المشرق.
لكن هذه المعادلة، التي استمرت في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد ثم عمّقها الرئيس السابق بشار الأسد عبر تسليم مفاتيح القرار العسكري والاقتصادي لروسيا منذ 2015، لم تعد قائمة اليوم.

زيارة أحمد الشرع، الرئيس الانتقالي، إلى موسكو، مثّلت لحظة رمزية تعلن نهاية “الوصاية المتبادلة”
دمشق الجديدة لا تبحث عن حامٍ خارجي بل عن شريك يعترف بسيادتها المؤقتة.
أما موسكو، فترى في سوريا ما هو أكثر من حليف؛ تراها بوابة الخلاص من الطوق الغربي، ونافذة على المتوسط الذي حلمت به القيصرية والاتحاد السوفييتي معا.

لم تكن المفاوضات سهلة؛ فحسب التسريبات، طالب الشرع بأن تُعاد صياغة الاتفاقيات العسكرية بين البلدين، وأن تُخضع القواعد الروسية في طرطوس وحميميم لمراجعة قانونية تضمن خضوعها الكامل لسيادة الدولة السورية.
رد موسكو كان محسوبا: السيادة لا تُناقَش، لكنها تُمارَس وفق شروط الجغرافيا، وهي عبارة حمّالة أوجه تكشف جوهر العلاقة القادمة؛ شراكة مشروطة لا وصاية معلنة.

روسيا بين الوفاء والبراغماتية

روسيا اليوم ليست روسيا 2015. إنها دولة تخوض حربا مفتوحة مع الغرب على كل الجبهات، من أوكرانيا إلى بحر البلطيق، مرورا بالطاقة، والعملات، وحتى الوعي الجمعي.
لا تملك موسكو رفاهية خسارة موطئ قدمها الوحيد في المشرق العربي، لكنها أيضا لا تستطيع تمويل سلطة انتقالية غير مستقرة ولا تحظى بإجماع وطني، وهنا بالضبط يتجلّى المأزق الروسي في سوريا:

  • هل تتمسّك بحليف متغيّر قد يعيد تموضعه نحو الغرب أو تركيا؟
  • أم تعيد صياغة نفوذها عبر عقود اقتصادية وأمنية طويلة الأمد تحصّن حضورها لعقود قادمة؟

بيانات وزارة الدفاع الروسية تشير إلى أن عدد الجنود الروس في سوريا انخفض من نحو6500  جندي عام 2021 إلى ما يقارب 3200 في منتصف 2025، وفق تقارير مركز Jusoor for Studies، كما تقلّصت الطلعات الجوية بنسبة 70% مقارنة بذروة العمليات في 2016، بينما تحوّل الدور الروسي إلى مراقبة واستشارة.
هذا الانسحاب الهادئ لا يعني الانكفاء، بل إعادة تموضع، فروسيا تدرك أن السيطرة الصلبة انتهت، وأن النفوذ الناعم الاقتصادي، والثقافي، الاستخباراتي هو السلاح الجديد.

في المقابل، يشير تحليل معهد موسكو للعلاقات الدولية MGIMO إلى أن روسيا أبرمت، قبل سقوط النظام السابق، أكثر من 28 عقدا في مجالات الطاقة والفوسفات والمرافئ، واليوم، يحاول الكرملين التفاوض مع الحكومة الانتقالية لتثبيت هذه العقود مقابل دعم سياسي واقتصادي مرحلي، فروسيا لا تبحث عن المال، بل عن الخلود الجغرافي.

دمشق بين التحرر والاعتماد

منذ أن تسلّم أحمد الشرع إدارة المرحلة الانتقالية بعد انهيار النظام السابق، تبنّت حكومته خطابا يقوم على ثلاث شعارات:

  1. استعادة السيادة الوطنية:

شعار متكرر في الخطاب الرسمي، لكن دون ترجمة فعلية على الأرض، في ظل انقسام السيطرة وتعدد القوى المحلية والإقليمية الفاعلة داخل البلاد.

  • فكّ الارتباط بالتحالفات القديمة:

طرح نظري أكثر منه مسار سياسي واقعي، فالحكومة لا تزال تبحث عن بدائل لتحالفاتها القديمة، وزيارة موسكو تعبر بوضوح عن هذا المأزق.

  • بناء سياسة خارجية متعددة المحاور:

هدف معلن، لكن الممارسة تبقى محدودة ضمن هامش ضيق من المناورة، إذ لا تمتلك دمشق الانتقالية بعد أدوات توازن حقيقية بين الشرق والغرب.

هذا الطموح يصطدم بواقع اقتصادي منهار:

  • الناتج المحلي الإجمالي السوري في نهاية 2024 لم يتجاوز18  مليار دولار، أي أقل من نصف ما كان عليه قبل الحرب.
  • العملة المحلية فقدت 96% من قيمتها منذ 2011.
  • وتقدّر الأمم المتحدة أن90% من السوريين تحت خط الفقر.

في ظل هذا الانهيار، تصبح موسكو رغم تراجعها شريانا اقتصاديا لا يمكن الاستغناء عنه، فهي المورد الرئيس للقمح والوقود، والممر المالي شبه الوحيد غير الخاضع للعقوبات الغربية.
غير أن الشرع، الذي يدرك هشاشة موقعه الداخلي، يحاول أن يُظهر استقلالا رمزيا في السياسة الخارجية،
لكن سيادة بلا تفويض تبقى شكلية وأقرب إلى ظل على جدار الدولة المنهكة.

صراع الرؤى – بين واقعية موسكو وارتباك دمشق

بالنسبة لروسيا، سوريا ليست مجرد حليف سياسي؛ إنها قطعة من خريطتها الأوراسية الممتدة نحو المتوسط، ومركزها العسكري الأخير في الجنوب.
أما السلطة في دمشق فترى نفسها كدولة تحاول إعادة تعريف وجودها خارج محور التبعية لأي قوة، غير أن هذه تبقى شعارات على الورق وتصطدم بمعادلة قاسية:

  • لا يمكن لحكومة انتقالية بلا تفويض أن تبني سياسة خارجية متوازنة وهي عاجزة عن فرض النظام في الداخل.
  • القوى الدولية والاقليمية من الولايات المتحدة الأميركية وتركيا وحتى دول الخليج والسعودية الى الآن هي من تفرض كل شي و تربط اي انفتاح بسلسلة من السياسات الداخلية و الخارجية.
  • الجنوب السوري على فوهة تصعيد دائم مع إسرائيل.
  • والشمال الشرقي مرهون بتفاهمات متبدّلة بين “قسد” وواشنطن.
  • المؤسسات المركزية في دمشق لا تزال تعاني من الانقسام بين تيارات غير متجانسة.

في مثل هذا المشهد، تبدو زيارة موسكو أشبه ببحث عن سند أكثر منها مبادرة سيادية.

المآلات الممكنة

تحليل المعطيات الحالية، استنادا إلى مصادر روسية وسورية مستقلة، يتيح رسم ثلاثة سيناريوهات محتملة للعلاقة خلال العام المقبل:

  1. السيناريو التوافقي 40%
    1. يتم التوصل إلى اتفاق إطار جديد بين البلدين يضمن بقاء القواعد الروسية بشروط محددة.
    1. موسكو تشارك في مشاريع إعادة الإعمار مقابل دعم سياسي للحكومة الانتقالية.
    1. العلاقة تعود إلى طبيعتها ““البراغماتية” دون بعد أيديولوجي.
  2. السيناريو الانفصالي  30%
    1. فشل المفاوضات حول الوجود العسكري.
    1. انسحاب تدريجي للقوات الروسية.
    1. توجه دمشق نحو محور تركي – أوروبي للحصول على دعم اقتصادي، ما يفتح الباب لتوازنات جديدة في الشرق الأوسط.
  3. السيناريو الأوراسي الجديد30%
    1. إعادة صياغة العلاقة ضمن مفهوم “الاتحاد الأوراسي الموسّع”.
    1. تحويل سوريا إلى منصة لتمديد النفوذ الروسي شرق المتوسط، مع منح الحكومة الانتقالية حرية سياسية نسبية.
    1. هذا السيناريو يتطلب موافقة ضمنية من الصين، مما يجعله الأكثر تعقيدا.

سيادة مُعارة وشرعية مؤجلة

في فلسفة السياسة الواقعية، السيادة لا تُمنح، بل تُنتزع، وزيارة أحمد الشرع إلى موسكو كشفت أن سيادة دمشق ما تزال مؤجَّلة، وتتأرجح بين التاريخ الثقيل والنفوذ الخارجي، وبين سلطة انتقالية تبحث عن شرعيتها في الخارج بدل الداخل.

موسكو، من جهتها، تدرك أن “الانتقال” مرحلة عابرة، لكنها تُراهن على البقاء في قلب المشهد مهما تغيّر اللاعبون.
وسوريا، التي أنهكها الانقسام، تحاول أن تبدو دولة مستقلة وهي لا تزال تُدار بمنطق التوازنات الهشة.

العلاقة بين موسكو والسلطة في دمشق ليست تحالفا ولا قطيعة، هو تحالف الضرورة بين قوة تبحث عن تثبيت نفوذها، وسلطة تسعى لتثبيت شرعيتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *