جمال عبد الناصر، زعيم سقطت تجربته وظل واقفاً

سعد لوستان

لا يُكتب هذا المقال من موقع تمجيد للناصرية، كما لا يصدر عن نزعة حاقدة ناقمة تتصيّد الأخطاء لإدانة المشروع أو شيطنته. إنما هو محاولة لقراءة تجربة جمال عبد الناصر قراءة تاريخية عقلانية، تستند إلى الموضوعية والأمانة الفكرية، بعيداً عن العواطف المؤلّهة أو المواقف العدائية المطلقة.
وهو في جوهره محاولة لفهم ذلك التناقض اللافت في الوعي الجمعي العربي “محبة قائد التجربة، رغم الاعتراف الواسع بفشلها” مع العلم أن عائلتي كانت من ضحايا التسريح التعسفي للضباط السوريين زمن الوحدة السورية المصرية، ثم من نزلاء السجون والإقامات الجبرية لدى صلاح نصر وعبد الحميد السراج.

هناك شبه إجماع بين قطاعات واسعة من الجماهير العربية على محبة الرئيس جمال عبد الناصر، رغم ما يُجمع عليه كثير من المؤرخين والمفكرين وأصحاب التجربة من أن مشروعه السياسي المعروف “بالمشروع الناصري” فشل منذ بدايته وحتى نهايته. هذا التناقض الظاهري بين فشل التجربة ودوام المحبة يفتح الباب لتفسير أعمق، يتجاوز المحصلة السياسية إلى طبيعة العلاقة التي نشأت بين عبد الناصر والشعوب العربية.

أول ما يلفت النظر هو شخصية عبد الناصر نفسها. الرجل لم يكن فاسداً ولم يسع إلى ثروة أو مجد شخصي أو توريث، وهذا نادر في تاريخ الزعماء العرب، مات فقيراً، وصورته لدى الناس كانت دائماً صورة الحاكم النزيه، البسيط، القريب منهم، الذي يعبر عن مشاعرهم ومظالمهم وآمالهم. كاريزماه الطاغية وخطابه الصادق منحاه مصداقية واسعة، خصوصاً في زمن كانت فيه الشعوب تبحث عن بطل يرد لها كرامتها بعد عقود من الاستعمار والتبعية والإذلال والعبودية الطبقية.

ثم تأتي طبيعة الخطاب الذي تبناه. عبد الناصر رفع شعار القومية العربية والوحدة والتحرر من الاستعمار، وتحدث عن العدالة الاجتماعية ومجانية الصحة والتعليم وحقوق الفقراء، في زمن كان فيه “الغلابة” يموتون مرضاً وفقراً وقهراً، هذا الخطاب حتى وإن لم يتحقق فعلياً في كثير من جوانبه، كان بمثابة الحلم الجماعي لشعوب محلية مسحوقة لقرون طويلة، وكثير من البسطاء لمسوا بعض التحسن الحقيقي في حياتهم، كالإصلاح الزراعي وتوسيع التعليم والنهوض بالقطاع الصحي، ودخول فقراء الشعب إلى الوظائف الإدارية المدنية والعسكرية، ودعم القضية الفلسطينية بصدق وثورة الجزائر حتى الاستقلال، ما منح المشروع الناصري كثيراً من المصداقية على الأرض، وإن كانت محدودة أو غير مستدامة.

ولكن لماذا يظل هذا الحب والحنين قائماً رغم الفشل؟ الجواب يتجاوز التجربة الواقعية إلى ما يمكن تسميته بـ”النسخة الممكنة” من عبد الناصر. (الناس لا تشتاق فقط إلى ما كان، بل إلى ما كان يمكن أن يكون). إلى ناصر الذي لم يُكمل مشروعه، إلى الحلم العربي الذي لم يُمنح الفرصة الكاملة. فشله لا يُقرأ على أنه نتيجة خيانة أو فساد، بل يُنظر إليه كتراكم ظروف دولية معقدة، وضغوط هائلة فاقت قدرات المرحلة ورموزها، وأخطاء بشرية في التخطيط والتنفيذ. لكنه لم يكن فشلاً نابعاً من نوايا سيئة، وهذا فارق جوهري في الحكم الشعبي عليه.

لكن لا يمكن تجاهل الأخطاء الكبرى التي ارتُكبت خلال فترة حكمه، والتي ساهمت بشكل مباشر في إضعاف المشروع نفسه وتقويضه من الداخل وربما قد أسست لمآسي اليوم. تجربة الوحدة مع سوريا عام 1958 كانت أبرز هذه الإخفاقات، فقد بدأت بحماس شعبي كبير لكنها سرعان ما تحولت إلى تجربة استبدادية مريرة، مركزية مُسيطر عليها من القاهرة، أدت إلى تهميش النخب السورية وإلغاء المؤسسات الوطنية والتفكيك الأول للجيش السوري الفتي في ذلك الوقت، ما خلق شعوراً بالاختناق السياسي والإحباط الوطني، وأسفر عن انهيار الوحدة عام 1961. إلى جانب ذلك، اتسم النظام بطابع بوليسي رهيب، حيث توسعت الأجهزة الأمنية، وقُمعت الحريات السياسية، وأُلغيت التعددية الحزبية، مما أفضى إلى تجميد الحياة السياسية وتكميم الأصوات المعارضة، سواء من اليسار المستقل أو من الإسلاميين أو حتى من داخل التيار القومي ذاته. كما أن المشروع الناصري، رغم تبنيه لفكرة الوحدة، تجاهل التعدد القومي والثقافي في دول ومجتمعات المنطقة، وساهم في طمس الهويات غير العربية، لا سيما الكردية والسريانية، التي تم تهميش لغاتها وثقافاتها وحقوقها بذريعة الانصهار في القومية العربية، وهذا خطأ سياسي وعلمي فادح عمّق الانقسامات وأسس للكثير من تناقضات اليوم.

كذلك لا يمكن تجاهل أثر المقارنة التاريخية. الزعماء الذين جاؤوا بعده في أغلب الدول العربية، سواء في مصر أو خارجها، أخفقوا هم أيضاً، بل ربما بدرجات أكثر فداحة، وارتبطوا بالفساد والاستبداد والارتهان للخارج. هذا جعل من عبد الناصر رمزاً “نظيفاً” في ذاكرة الناس، ورمزاً لحلم جماعي بات مفقوداً.

من زاوية تحليلية موضوعية، يمكن القول إن المشروع الناصري كان نبيل النوايا، لكنه ضعيف في أدوات التنفيذ. غياب الديمقراطية، الاعتماد على الأجهزة الأمنية، وتضخم دور الدولة بلا رقابة حقيقية، كلها عوامل ساهمت في انهيار التجربة، وخصوصاً بعد هزيمة 1967 التي كانت ضربة قاصمة لهيبة المشروع بأكمله وبداية نهايته.

لكن الشعوب لا تحكم فقط بلغة الأرقام والنتائج، بل بلغة العاطفة والانتماء والرمز. لهذا فإن عبد الناصر باقٍ في الذاكرة، لا كحاكم ناجح بالمعايير السياسية الصرفة، بل كترجمة صادقة لأخلاق القائد ولحلم عربي كبير لم يكتمل. محبة الناس له هي محبة لمرحلة الحلم وليست بالضرورة تأييداً لتجربة حكمه ونتائجها. الحنين ليس إلى الماضي كما كان، بل إلى مستقبل لم يولد.

وكأن عبد الناصر لم يغادر المنصة قط، بل ظل واقفاً في وجدان العرب حتى اليوم، يلوّح بخطابه الأخير، حيث انتهى الحلم وابتدأ الحنين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *