من الإرهاب إلى الاعتراف: كيف تغيّرت الرؤية الدولية لأحمد الشرع في هندسة الاستقرار الجديدة

حين تتبدل خرائط المعنى

في عالم السياسة الدولية، لا تستقر التعريفات كما لا تثبت الحدود، رجل يُعتبر بالأمس إرهابيا يُعاد تصنيفه باعتباره شريكا ضروريا أو ركنا في معادلة توازن جديدة، وهذا التحول الحاصل في الموقف الدولي من الرئيس الانتقالي السوري أحمد الشرع هو نموذج على تآكل الخطاب الأخلاقي في السياسة، وعودة البراغماتية العارية إلى مركز القرار الدولي.

الشرع كمرآة لتحولات النظام الدولي

الشخصيات السياسية لا تُفهم إلا بوصفها تجسيدا لجغرافيا القوة، فكما تُقرأ التفاعلات بين الجغرافيا والهوية في مناطق الأزمات، يمكن فهم صعود الشرع من هامش التصنيف الإرهابي إلى دائرة المشروعية السياسية كمؤشر على أن النظام الدولي لم يعد يُعرّف الفاعلين بناء على معايير قيمية، بل على مدى قدرتهم على فرض نظام أو تطبيق إرادة ومصالح الدول الكبرى.

من هذا المنظور، يصبح الشرع ليس مجرد قائد محلي، بل نتاجا لبيئة جغرافية وسياسية مأزومة جعلت من الامتثال لا الأخلاق معيار الفاعلية، فالحدود اليوم لا يرسمها القانون بل الخوف، والخوف في سوريا لم يعد من التنظيمات المتطرفة، بل من الفراغ الذي يهدد حدود الإقليم إذا انهارت توازناته الصلبة.

الاعتراف كأداة لا كجائزة

التحول في الموقف الدولي من أحمد الشرع، الذي بدأ بخطاب أمني ثم تدرج إلى مقاربة سياسية، يمكن تفسيره من خلال منطق “الاعتراف الوظيفي” فهو لا يعني قبولا بالقيم، بل إقرارا بالواقع، القوى الدولية التي فشلت في فرض نموذج حكم مستقر بعد موجة الربيع العربي، تتجه اليوم إلى تبني مبدأ إدارة الواقع كما هو، وهو ما يجعل الشرع مقبولا لا لأنه تغير، بل لأن النظام الدولي تغيّر.

لم يعد الغرب يبحث عمن يمثل القيم كما كان يدعي، بل عمن يمكنه السيطرة، فالاعتراف ليس تسوية مع ماض مثير للجدل، بل رهان على مستقبل يمكن ضبطه، فالواقعية الجديدة التي تحكم السياسة الدولية لا تُعنى بالتاريخ بقدر ما تهتم بالقدرة على إدارة الجغرافيا وفق رؤية ومصالح الآخرين.

الشرع بين سرديتين: المقاومة والنظام

من الناحية الرمزية، يمثل أحمد الشرع حالة نادرة من التعدد السردي؛ فهو بالنسبة لأنصاره رمز للثبات والمقاومة، بينما يراه معارضوه تجسيدا لبنية سلطوية متطرفة تحل عوضا عن النظام السابق بشكل يعكس ديكتاتورية أقسى بكثير، وأقل مسامحة.

هذا التناقض لا يمكن اختزاله في صراع روايتين متقابلتين، بل يعكس البنية المركبة للجغرافيا السورية ذاتها، حيث التاريخ لا يُنتج هوية جامعة بل سلسلة من الولاءات المتغيرة على إيقاع الخوف والنجاة، ومع صعود السلطة الجديدة التي تبني شرعيتها على مركزية القوة لا على المشاركة، يتفاقم تفكك النسيج الاجتماعي في العمق، إذ تتحول الانتماءات المحلية والطائفية إلى أدوات دفاع وجودي، ويغدو الشعور بالانفصال الاجتماعي نتيجة مباشرة لسياسات تُعيد تعريف الولاء على قاعدة النفوذ لا الانتماء الوطني.

يتحول الشرع في هذا السياق إلى فاعل رمزي، لا باعتباره صانع سياسة فحسب، بل بوصفه تمثيلا مكثفا لمعادلة الاستقرار المهدد، فالدول الكبرى لا ترى فيه اليوم مجرد زعيم محلي، بل ضمانة نسبية ضد اتساع شقوق الجغرافيا السياسية وانهيار التوازنات التي تحافظ على شكل الدولة ولو في حدها الأدنى.

غير أن هذا الاستقرار الذي يُنسب إليه لا يستند إلى تماسك اجتماعي حقيقي، بل إلى منظومة ضبط قسرية تجعل من الأمن بديلا عن العقد الاجتماعي، وهنا تكمن المفارقة؛ ما يُقدم دوليا بوصفه رهانا على الاستقرار، يُنتج داخليا هشاشة بنيوية تنذر بانفجار مقبل، أشبه بما يسميه بعض المنظّرين “الاستقرار الميت”؛ نظام يبدو ثابتا في الظاهر، لكنه يفقد تدريجيا لحمته الاجتماعية ويعيش على إيقاع الخوف المؤجل.

من الحرب على الإرهاب إلى هندسة الاستقرار

تطور الموقف الدولي من أحمد الشرع يختصر تحولا أعمق من مجرد مراجعة سياسية، فهو يعبر عن لحظة انتقالية في بنية التفكير الاستراتيجي العالمي، فانتهت مرحلة الحرب على الإرهاب، تلك العقيدة التي منحت الغرب شعورا زائفا بالرسالة الأخلاقية، وبدأت مرحلة جديدة يمكن وصفها بسياسة هندسة الاستقرار؛ أي بناء نظم هشّة قابلة للسيطرة أكثر من كونها قابلة للحياة، فبدلا من الحرب على الفوضى، باتت الفوضى نفسها مادة لإدارتها، جزءا من هندسة دقيقة تسمح بإبقاء التوتر دون انفجار، والانهيار دون سقوط، وتستعيد الواقعية السياسية مكانتها كعقيدة ما بعد الأيديولوجيا، إذ يُنظر إلى العالم لا كمنظومة قيم بل كجغرافيا متغيرة يجب التكيّف مع تضاريسها لا تغييرها.

إن عودة هذا المنطق الواقعي لا تأتي من ضعفٍ أخلاقي فقط، بل من شعور غربي عميق بأن الخرائط لم تعد تُصنع في غرف السياسة بل في أطراف النزاعات، فيصبح دعم أحمد الشرع جزءا من استراتيجية احتواء جغرافي أكثر منه خيارا سياسيّا، فالرجل يمثل حدود النظام الممكن، لا المثال المرغوب.

إن الغرب، الذي تَعلَّم من تجربته في العراق وليبيا أن إسقاط نظام لا يعني بناء بديل، بات يعتبر أن المحافظة على هشاشة منظمة أفضل من مغامرة الانهيار الكامل، وتبلور ما يمكن تسميته بـ”سياسة الحافة الرمادية”؛ إبقاء الصراع عند مستوى التوازن بين الفوضى والنظام، حيث لا ينتصر أحد تماما ولا يسقط أحد نهائيا.

لم يعد دعم الشرع استثمارا في مشروع سياسي أو وعود ديمقراطية، بل في معادلة استقرار إقليمي تُدار بالمخاوف أكثر مما تُبنى على الثقة، وهو شكل من أشكال الواقعية الجغرافية الجديدة التي ترى أن الأمن النسبي ولو مفروضا أهون من الفوضى المطلقة، وهكذا يعود العالم إلى منطقه القديم حيث تُقاس شرعية السلطة بقدرتها على منع الانهيار، لا بقدرتها على تحقيق العدالة.

البراغماتية كأخلاق بديلة

التحول القائم يعكس نهاية البراءة السياسية. فالغرب لم يعد معنيا بتبرير تحالفاته أخلاقيا، بل بتسويغها جيوسياسيا، والشرع، في هذا المعنى، لا يُعامل كشخصية تعبر عن قيم الغرب، بل كضرورة إقليمية، فالسياسة تعود إلى معناها الأصلي؛ فن البقاء.

لكن البراغماتية هنا ليست انعداما للأخلاق فقط، بل أخلاق بديلة تنبع من فكرة أن النظام أيا كان أفضل من الفوضى؛ إنها واقعية تدرك محدودية القيم أمام ثقل الجغرافيا، وتقبل بالممكن بوصفه شكلا من أشكال العدالة العملية.

ما بعد التصنيفات

يمكن قراءة قصة التحول في الموقف الدولي من أحمد الشرع كعلامة على دخول العالم مرحلة ما بعد التصنيفات، حيث يتراجع فيها الخطاب القيمي أمام منطق السيطرة، وتغدو الجغرافيا مرة أخرى الفاعل الحقيقي في صناعة السياسة.

الشرع، في هذا السياق، ليس حالة فردية بل نموذج لظاهرة أوسع؛ إعادة الاعتبار لما هو محلي في وجه العولمة المنهكة، وللأمن في وجه الأيديولوجيا.
ما بدأ كملف إرهاب تحول إلى ملف اعتراف، لا بفعل المصالحة أو التوبة، بل بفعل التحول العميق في ميزان العالم، حيث لم تعد الأخلاق تصنع السياسة، بل الحاجة.

تحول الرؤية الدولية لأحمد الشرع

من الإرهاب إلى الاعتراف: تحولات الرؤية الدولية لأحمد الشرع

قراءة في تآكل الخطاب الأخلاقي وعودة البراغماتية إلى مركز القرار الدولي

الاستنتاج الرئيسي

قصة التحول في الموقف الدولي من أحمد الشرع تعكس دخول العالم مرحلة ما بعد التصنيفات، حيث يتراجع الخطاب القيمي أمام منطق السيطرة، وتغدو الجغرافيا مرة أخرى الفاعل الحقيقي في صناعة السياسة. فالاعتراف لم يعد تسوية مع ماض مثير للجدل، بل رهان على مستقبل يمكن ضبطه، حيث تُقاس شرعية السلطة بقدرتها على منع الانهيار، لا بقدرتها على تحقيق العدالة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *