قراءة واقعية في ملامح الخطاب السياسي الجديد
في عالمٍ يعيد تشكيل خرائطه بالقوة أكثر مما يعيدها بالاتفاق، تقف سوريا اليوم في موقع لا تُحسد عليه؛ بلد خرج من حرب لكنه بقي أسير توازنات القوى الدولية والإقليمية.
زيارة أحمد الشرع إلى موسكو، وما تبعها من مقابلة مطولة لوزير خارجيته أسعد الشيباني على شاشة الإخبارية السورية، ليستا حدثين منفصلين؛ بل مشهدان في لوحة واحدة تُظهر دولة متعثرة في إيجاد تُوازن بين جغرافيتين سياسيتين متناقضتين، جغرافيا نفوذ قديم ما زال يفرض ظله، ومركز قرار جديد لم يستقر بعد على اتجاهٍ واضح.
موسكو — حيث تُدار الجغرافيا السورية من الخارج
في الكرملين، كان أحمد الشرع يتحرك على أرض ليست له بالكامل، فهي بالنسبة لدمشق، ليست مجرد حليف، بل مركز تحكمٍ في مسار الجغرافيا السورية منذ عام 2015.
حين جلس الشرع أمام فلاديمير بوتين، لم يكن في موقع الندّ، بل في موقع من يحاول أن يُعيد ترسيم العلاقة دون أن يهزّ الأرض التي يقف عليها.
تصريحاته القصيرة عن “إعادة تعريف العلاقات مع روسيا” و”احترام الاتفاقيات الموقعة كانت محاولة لتلمّس طريق بين الخضوع والتحدي، ولغة الشرع بدت مزيجا من الامتنان والاحتياط، تشبه لغة قائد ميداني يعلم أن جيشه لا يزال يعتمد على الغطاء الجوي الروسي.
لا شيء في كلماته يوحي بثقة زعيمٍ يملك مفاتيح القرار، بل بحذر رجل يعرف أن التاريخ السوري، كما الجغرافيا السورية، لا يتيحان رفاهية القطيعة.
منذ تدخل روسيا العسكري في خريف 2015، أصبحت سوريا عقدة ضمن مشروع القوة الروسية في المتوسط، فميناء طرطوس وقاعدة حميميم لم يعودا مجرد مواقع عسكرية؛ إنهما شرايين جيوسياسية تمتد من البحر الأسود إلى المياه الدافئة.
حين يتحدث الشرع عن “إعادة تعريف العلاقات”، فإن ما يقوله في العمق هو كيف يمكن لدولة أن تتحرر من قبضةٍ تمسكها من عنقها البحري؟
الشرع لم يملك جوابا.
لم يكن يفاوض بقدر ما كان يختبر حدود الكلام الممكن في حضرة القوة.
الزيارة إلى موسكو لم تكن إعلان بداية، بل اختبار نهاية مرحلة من الصمت أمام الاحتياج لنفوذ الروسية، وبداية البحث عن مسافة آمنة بين الضرورة التي يفرضها تاريخ البلدين، والظروف التي تحكم سلطات دمشق الحالية.
دمشق — محاولة لتوطين السياسة في الداخل
على النقيض، قدّم أسعد الشيباني من دمشق خطابا مليئا بالضجيج اللفظي.
مقابل لغة الشرع المرتبكة، جاءت مقابلة الشيباني أشبه بجولة في مختبر دبلوماسية جديدة تحاول تنظيف ما تبقى من رماد النظام القديم، فهو لم يتحدث كوزير في حكومة دولةٍ مستقرة، بل كناطق باسم ثورة لم تكتمل بعد.
في حديثه المطوّل، أعاد الشيباني رسم صورة السياسة الخارجية السورية من الصفر؛ معتبرا أن الدبلوماسية السابقة كانت قائمة على “الابتزاز والبلطجة”، وأن العلاقات مع موسكو ولبنان والصين تُعاد صياغتها “بندّية ومسؤولية وطنية”.
لكنه، في الوقت نفسه، أقرّ بأن تلك العلاقات لا يمكن أن تُلغى، بل يجب “إعادة تقييمها”.
اللغة هنا مزدوجة:
- تعلن التحرر لكنها لا تملك أدواته، وتنتقد الماضي دون أن تقدّم بديلاً له.
- تعبّر عن حاجة حقيقية في دمشق؛ إعادة مركز القرار السياسي إلى العاصمة بعد أن ظلّ موزعا بين موسكو وطهران لسنوات.
الشيباني تحدث كما يتحدث رجل إدارة يواجه دولةً مثقلة بالوصايات المتراكمة، وفي حديثه عن “القواعد الروسية قيد التفاوض”، ويرسل إشارة إلى الداخل أكثر مما كان يرسلها إلى موسكو، فخطابه موجه لجمهور يريد أن يصدق أن الدماء التي أُريقت من أجل الثورة لم تذهب لتصنع تبعية جديدة تحت راية مختلفة.
بين الخطابين — ازدواجية الضرورة
التناقض بين خطاب الشرع وخطاب الشيباني ليس صدفة بل نتيجة منطقية لمرحلة الانتقال الجغرافي – السياسي التي تمر بها سوريا.
الشرع يتحدث من الخارج، بلغة تحاول طمأنة موسكو إلى أن نفوذها لن يُمس.
الشيباني يتحدث من الداخل، بلغة تَعِد السوريين بأن هذا النفوذ في طريقه إلى التقلص.
كلاهما يقول الحقيقة من زاويته، فدمشق لا تستطيع أن تعيش دون روسيا، لكنها لا تستطيع أن تستعيد سيادتها في ظلها.
هذه الازدواجية ليست جديدة في التاريخ السوري.
فمنذ خمسينيات القرن الماضي، تأرجحت السياسة السورية بين الاعتماد على قوة كبرى والرغبة في الاستقلال عنها:
- مصر في عهد الوحدة.
- الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة.
- إيران بعد 2011، وروسيا لاحقاً.
النتيجة واحدة فكل حليفٍ خارجي ترك بصمته على الجغرافيا السورية، ثم تحوّل من مظلة إلى عبء، وما يفعله النظام الجديد ليس أكثر من إعادة إنتاج هذا النمط بلغة مختلفة.
فهو لا يملك ترف التحرر، لكنه يريد أن يُعيد تعريف التبعية كـ”شراكة مرنة” بدلا من “احتلالٍ ناعم”.
يبدو التناقض بين موسكو ودمشق جزءا من إستراتيجية مكرّرة، واللعب على الحافة لتجنّب السقوط من الجبل الذي يربط الساحل بالداخل، والشرق بالغرب، والروس بالسوريين.
الجغرافيا تحكم السياسة
لفهم هذا التناقض لا بد من العودة إلى الجغرافيا.
فروسيا لا تتمسك بسوريا حبا بها، بل لأنها نافذتها إلى المتوسط، ومنصّتها للتأثير في توازنات الطاقة الإقليمية.
وسوريا، بقدر ما تحتاج إلى موسكو، لا تملك بديلا استراتيجيا يعوضها إن غادرتها.
تركيا خصم تاريخي، وإيران لم تعد جزء من حسابات التوازن بالنسبة لسلطات دمشق، والغرب بعيد ولا يثق بالنظام الجديد.
في هذا الفراغ، تحاول سلطة دمشق أن تبني لنفسها هوية سياسية هجينة:
ليست موالية بالكامل لموسكو، لكنها ليست خارجة عن محورها.
خطاب الشرع في الكرملين يُعبّر عن هذا الوضع الجغرافي الرمادي، حيث سوريا نقطة تماس بين القوة الروسية شمالا، والعالم العربي جنوبا، والمصالح الغربية في البحر غربا.
أما خطاب الشيباني، فهو انعكاس لدمشق التي لم تغادر بعد مرحلة “إثبات الوجود”، فلا يتحدث عن سياسة خارجية بقدر ما يتحدث عن سيكولوجيا ما بعد الحرب؛ عن حاجة السوريين إلى أن يروا حكومتهم تتكلم بلغة غير لغة الأسد، حتى لو لم تتغيّر النتائج بعد.
ما وراء الكلمات — اختبار النفوذ
الفرق بين الرجلين هو الفرق بين من يعيش السياسة كجغرافيا، ومن يراها كقيمة.
الشرع ينظر إلى روسيا كحائطٍ يمكن الاستناد إليه، والشيباني يراها عبئا يجب إدارته، وكلاهما يتحرك في إطارٍ تحدده القوة لا المبادئ.
يفهم الكرملين طبيعة هذه الازدواجية، وربما يستثمرها، فروسيا تفضل أن تتعامل مع دولة تتحدث بلغتين، واحدة تصالحية وأخرى نقدية، على أن تواجه خصما صريحا.
هذه الازدواجية تمنح موسكو مساحة من المناورة، وتُبقي سلطة دمشق في منطقة نفوذها دون إعلان رسمي عن التبعية.
في المقابل، تمنح سلطة دمشق نفسها فرصة لتسويق صورة “الاستقلال التدريجي” أمام الداخل والعواصم العربية، لكنّ الخطر يكمن في أن تتحول هذه الازدواجية إلى انفصامٍ سياسي حقيقي إذا لم تترجم إلى رؤية موحّدة،
فالتاريخ لا يرحم الدول الصغيرة وخاصة حين تحكمها سلطات غير شريعة هجينة، حين تظن أن الكلمات يمكن أن تحلّ محل الجغرافيا.
التناقض كقدر جغرافي
في نهاية المطاف، ما يبدو تناقضا بين خطاب الشرع وخطاب الشيباني ليس سوى انعكاس لوضع جغرافي لا يمكن تجاوزه بسهولة، فسوريا تقع حيث لا يمكنها أن تكون مستقلة تماما، ولا تابعة تماما، وكل خطاب يخرج من دمشق في ظل النظام الجديد يحمل في طيّاته هذا القدر الجغرافي؛ التعايش مع القوى التي تتقاطع على أرضها.
زيارة موسكو كانت إعلانا ضمنيا بأن سوريا ما زالت في دائرة النفوذ الروسي، ومقابلة الإخبارية كانت محاولة لفظية لإقناع السوريين بأن تلك الدائرة ليست قيدا بل خيارا مؤقتا، وبين الواقعي والمأمول، تمضي دمشق في طريق ضيق بين البحر والبادية، بين التبعية والسيادة.
السياسة ليست ما نريده، بل ما تفرضه التضاريس، وسوريا لا تصنع خطاباتها بل تنحتها الجغرافيا من صخور الساحل حتى غبار الفرات، ومن ظلّ الكرملين حتى أصوات السوريين في دمشق الذين ما زالوا ينتظرون أن يتكلم وطنهم بصوت واحد.
سوريا بين موسكو ودمشق: جغرافيا التناقض
تحليل للازدواجية في الخطاب السياسي السوري بين جغرافيا نفوذ قديم (روسيا) ومركز قرار لايعرف اتجاهٍ واضح من خلال مقارنة خطاب أحمد الشرع في موسكو وأسعد الشيباني في دمشق.
خطاب الشرع في موسكو
- لغة متصالحة وحذرة
- محاولة لإعادة تعريف العلاقة دون هز الأرض
- يتحدث من موقع الاعتماد على الدعم الروسي
- يركز على الحفاظ على المصالح المشتركة
- يقر بالحاجة للغطاء الجوي والوجود العسكري الروسي
خطاب الشيباني في دمشق
- لغة نقدية وتحررية
- محاولة لإعادة مركز القرار إلى العاصمة
- يتحدث من موقع إثبات الوجود
- يركز على إعادة تقييم العلاقات
- يشير إلى إمكانية التفاوض حول القواعد الروسية
النقاط الرئيسية للتحليل:
- الازدواجية بين الخطابين تعكس واقعاً جغرافياً وسياسياً
- سوريا تحتاج لروسيا لكنها غير قادرة على خلق توازنها الداخلي
- روسيا تتعامل مع سوريا كنافذة استراتيجية للمتوسط
- دمشق تحاول بناء هوية سياسية هجينة بين التبعية والاستقلال
- التناقض ليس صدفة بل نتيجة لمرحلة انتقالية


حلف روسيا ومصالحها مع تركيا وإسرائيل شاركت بتدمير مصالح سورية وتخريب دولتها والقضاء على جيشها للاسف