خريطة الصراع السوري الإسرائيلي بعد سقوط البعث

في العالم الذي رسمته الانهيارات، لا تعود الخرائط رموزا، بل سجلا للفراغات، وهو ما ينطبق على المشهد السوري بعد سقوط النظام في كانون الأول 2024، فهذا السقوط لا يشبه الانهيارات التقليدية لأنه تصدّع جيولوجي، يحوّل البنية السياسية إلى تضاريس صلبة تعيد ترتيب اللاعبين، ففي هذا الصراع الحرب لا تبدأ على الورق، بل على الصخور، و”سوريا الجديدة” تُكتب على مرتفاعات الجولان، لا في بيانات الأمم المتحدة.

سقوط المركز… وصعود الجغرافيا

منذ اللحظة التي تهاوى فيها النظام السياسي السوري، لم يكن السؤال: من يخلفه؟ بل: من يملأ الفراغ؟
لم يكن هناك وراثة للسلطة، بل انكشاف لغيابها، “إسرائيل” كانت أول من قرأ هذه الحقيقة بعيون جيوستراتيجية، سقوط النظام لا يعني فقط نهاية خصم، بل بداية خريطة جديدة، ومع تحرّك قواتها داخل منطقة “برافو” الواقعة تحت إشراف قوات  UNDOF، لم تهاجم دولة، بل تقدّمت داخل فراغ.

الغريب أن المقاومة لم تحدث، ليس فقط لأن النظام انهار، بل لأن أحدا لم يملك حق الرد، فالجغرافيا تحكم، والقرار بيد من يتحكم في التلال لا من يُعلن السيادة من عاصمة فارغة.

الجولان يعود إلى وظيفته الأولى

الجولان ليس فقط “هضبة”، بل مرصد جيوستراتيجي، والطبقة البركانية التي شكلته ليست مجرد تضاريس، بل تشكيل عسكري طبيعي يتيح السيطرة البصرية والعملية على دمشق جنوبا، والسويداء شرقا، وحتى الساحل السوري غربا.

“إسرائيل” لم تستعد الجولان فقط، بل وسّعت رؤيتها الأمنية إلى ما هو أبعد من خط وقف إطلاق النار، ولم يعد الهدف تحصين حدود 1967، بل ضبط أعالي الجغرافيا، من تل الشعار إلى جبل الشيخ، فكل نقطة مرتفعة تحوّلت إلى قاعدة للرصد أو بطارية دفاعية.

ما بعد “الوجود المؤقت الإسرائيلي”

بدأت المراوغة السياسية الإسرائيلية تتكشّف منذ شباط 2025، فالحديث عن “تدخل مؤقت” لا ينسجم مع سلسلة من الأفعال التي تتجه بثبات نحو ترسيم أمر واقع طويل الأمد فهي أنشأت نقاط تفتيش وطرق عسكرية، ووسعت نفوذها حتى أطراف الغوطة.

ما حدث ليس احتلالا بالمفهوم القانوني، لكنه أكثر فاعلية من ذلك، فهو ترسيم وقائع فوقية، ولا يمكن إعادة هندستها بسهولة، ففي منطق الجيوبولتيك حين تسيطر على المرتفعات والممرات، لا تحتاج إلى توقيع معاهدة.

السماء السورية بلا جناحين

التحرك “الإسرائيلي ظهر عبر قصف منتظم، وطلعات جوية كل ثلاثة إلى أربعة أيام، وتفكيك كامل لبقايا الدفاع الجوي السوري.
هذه ليست حملة تأديبية بل هندسة جديدة للمجال الجوي، فدمشق يتم رصدها ليس فقط من الأرض، بل من السماء الإسرائيلية، ومع اختفاء التغطية الجوية السورية، تصبح أجواء الجنوب مشرّعة أمام الغارات والتجسس الإلكتروني.

في هذا السياق، لا تعود سوريا دولة فاعلة في المجال العسكري، بل مسرحا مفتوحا للمبادرة الإسرائيلية، من دون خطوط حمراء.

سوريا تتحوّل إلى فسيفساء أمنية

الحديث عن سوريا ككيان موحد انتهى منذ زمن، لكن ما بعد سقوط نظام البعث جعل التفكك واقعا جغرافيا أكثر منه سياسيا.
في درعا، فصائل تتوزع ارتباطاتها الإقليمية، وفي الجنوب الشرقي، جماعات عشائرية مدعومة من الأردن والخليج، أما في الشمال فهناك فصائل كردية أمريكية الارتباط أو مجموعات تابعة لتركيا، وفي الوسط، جماعات تتصارع على معابر ومياه.

لا يوجد مركز تفاوض، ولا حكومة تمثل الأرض، ولا جيش يمتد بين المدن، وهذا ما يجعل “إسرائيل” تُرسّخ وجودها دون الحاجة إلى اختراقات دبلوماسية.. من تفاوض “إسرائيل”؟ لا أحد، ومن يمكنه فرض انسحابها؟ لا أحد.

منطق الأرض يتفوق على منطق الاتفاقيات

إذا كان هناك درس واضح من سلوك “إسرائيل” فهو: الأرض تسبق السياسة.
الحديث عن “سلام” لم يعد يعني توقيع معاهدة، بل السيطرة على منبع ماء أو تلة رصد أو طريق إمداد، والسلام، في هذا السياق، لا يُبرم، بل يُفرض، وانهيار النظام السياسي لم يفتح باب التفاوض، بل أقفل باب التمثيل.

تتحرك إسرائيل وفق منطق واضح، فحيث لا توجد دولة سورية، فلا حدود لها.
هذه ليست لعبة قانونية، بل واقع أمني، و”إسرائيل” تبني “حزام أمان” يحاكي ما أنشأته في جنوب لبنان في ثمانينات القرن الماضي، لكنه هذه المرة يمتد إلى مشارف دمشق.

الخرائط الجديدة لا تُرسم بالحبر

يتحدث المفكر روبرت كابلان مؤلف كتاب انتقام الجغرافية أن “الخرائط لا تكذب، لكنها تقول الحقيقة التي نريد تجاهلها”، وفي الحالة السورية، الخريطة المرسومة منذ 1946 باتت حبرا باهتا، لا أحد يطبّقها، وما يحكم اليوم هو خريطة جديدة فيها المرتفعات التي تسيطر عليها “إسرائيل”، والمناطق التي تهيمن عليها فصائل موالية لأنقرة، وخريطة خطوط الإمداد التي ترسمها القوات الأمريكية والكردية في الشمال الشرقي.

في هذه الخريطة، لا موقع لدمشق كعاصمة، ولا موقع للعلم السوري كرمز سيادة، بل موقع لجماعات مسلحة، وطائرات بدون طيار، وأجهزة مراقبة “إسرائيلية” فوق تلال قديمة.

مَن يفاوض؟ وماذا يفاوض عليه؟

بدون مركز سياسي موحّد، لا يمكن للسوريين التفاوض على شيء، ومَن لا يملك الأرض، لا يملك ما يساوم عليه.
لهذا يصبح سؤال التفاوض مع إسرائيل سابقا لأوانه، بل فاقدا للجدوى.
تريد “إسرائيل” الأمن، وأخذته، وتريد المياه، ورسمت وصولها إليها، أما السوريون، فقبل أن يفكروا بإخراج “إسرائيل”، عليهم أولاً أن يخرجوا من فراغهم هم.

وهنا تكمن المفارقة: ليس على إسرائيل أن تقدم تنازلات، بل على سوريا أن تستعيد الدولة أولا لتكون طرفا، وحتى يتحقق ذلك، فإن “إسرائيل” تكتب شروط التفاوض على التلال، لا في جنيف.

لا يمكن الحديث عن “عدالة” في مشهد تحدده الانهيارات، فالصراعات لا تُحل بخطابات السلام بل بإدارة التضاريس.
الحل يبدأ من إعادة تعريف السيادة في سوريا، لا من تقديم تنازلات سياسية.

إن أراد السوريون إخراج “إسرائيل” من الأرض، فعليهم أولاً أن يستعيدوا قدرتهم على التحكم بها.
وإن أرادوا كتابة خريطة سياسية، فعليهم أولا أن يرسموا خريطة للسلطة.
وإلى أن يتحقق ذلك، فإن الجغرافيا ستبقى تفرض كلمتها، وحدود ما بعد البعث لن ترسمها إلا الجيوش والجبال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *