حين تُقصف ثم تُشكَر: قطر وإيران و13 ساعة من العبث الجيوسياسي

في مشهد غرائبي جرت واحدة من أكثر حلقات العبث الجيوسياسي كوميدية منذ اختراع مفهوم “العلاقات الدولية”، وكانت مساحتها الرئيسية تتكون من أربعة أطراف: إيران، قطر، الولايات المتحدة، و”إسرائيل”، وعلى المسرح 19 صاروخا، وقاعدة عسكرية فيها 13 ألف جندي أمريكي، وعدد لا بأس به من رسائل الشكر.

ما حدث ليس ببساطة تبادلا ناريا، بل أقرب إلى دراما مقلوبة حيث تُقصف الدولة، فتشكر، ثم تتوسط، ثم تُشكر مرة أخرى، ثم تُنكر القصف… ثم تؤكده “بروحٍ ودية”، والقصة تبدو أقرب إلى حبكة مسلسل من تأليف كاتب ساخر ضاق ذرعا بالواقعية، لكنها وقعت فعلا، خلال يوم واحد.

بداية الفوضى: إيران تقرر الضرب

قبل يومين من الحدث، أبلغت إيران، بحسب تقارير غير مؤكدة، ولكن شديدة الانتشار، الولايات المتحدة بعزمها قصف أهداف في قطر، وهنا نتوقف؛ من الطبيعي أن تخطر دولة نظيرتها قبل شن عملية عسكرية… إذا كانت هذه “الضحية” عدوة للطرفين، لكن حين تكون الضحية حليفة الدولة التي تلقت البلاغ، يصبح الإخطار مشهدا سرياليا بامتياز، ورغم أن قطر تضم أكبر قاعدة جوية أمريكية في المنطقة، فإن الرد كان: “تفضل، فقط لا تزعج الجنود أثناء لعبهم البلايستيشن”.

وعليه، قامت قطر بكل هدوء بإخلاء القاعدة الأمريكية من العناصر البشرية، وهذا أشبه بأن تقول لطرف ثالث: “سوف نتعرض لقصف وشيك، هل يمكن أن تبقى بعيدا قليلا؟ لا نريد إزعاجك.”

الصواريخ تهبط، والامتنان يرتفع

وفي صباح اليوم التالي، أطلقت إيران 19 صاروخا على قطر، ولا تقارير دقيقة عن حجم الأضرار، لكن ما هو مؤكد أن الصواريخ وقعت فعلا، هنا تدخل المسرح شخصية غير متوقعة هي دونالد ترامب الذي خرج بشكر علني لإيران على “ضبط النفس”، ونحن نتحدث عن رئيس أمريكي يشكر دولة أطلقت صواريخ قرب جنوده، وعلى حليفته، لكنه ممتن لأنها لم تصب رؤوسهم مباشرة.

يمكننا افتراض أن المعايير تغيرت فلم تعد “الحرب” شيئا سيئا، بل مجرد شكل من أشكال التواصل، طالما أنه لا يُحدث جلبة زائدة.

الجزيرة تغرّد باسم الدولة

بينما كانت التحليلات تتابع الموقف، خرجت قناة الجزيرة، ذراع قطر الإعلامي الأقوى، بتغريدة تهديد مباشر للمرشد الإيراني علي خامنئي، ولغة التغريدة كانت تصعيدية بشكل غير مسبوق، وُصفت بأنها “تحذير شخصي من أمير إلى مرشد”، فتخيل أن BBC تغرّد مهددة ملك إسبانيا “إذا لم تتوقف، سنرى من سيدفع الثمن في مدريد”.
سوف تسأل فورا: من كتب هذه التغريدة؟ ومن سمح بها؟ والأهم: لماذا لم تُحذف؟

لكن بدلًا من التوضيح، حدث ما هو أغرب: التغريدة بقيت، وتم اعتبارها على ما يبدو جزءا من المشهد الدبلوماسي الجاري.

قطر تتوسط… في قصف نفسها

الذروة جاءت بعد أقل من ساعة، فقطر، التي تعرضت قبل دقائق للقصف، أعلنت أنها تعمل كوسيط بين إيران وإسرائيل لوقف إطلاق النار، وهذه ليست مزحة… فالدولة المُعتدى عليها قررت ألا تطالب بإدانة أو تعويض أو حتى تفسير، بل أن تُسهم بدور بناء في رأب الصدع بين المعتدي وطرف ثالث.

وهذا نوع ليس عبقرية دبلوماسية… أو فقدان الحس بالكرامة السياسية.. إنه انتصار للسريالية.

ترامب يشكر الجميع… مجددا

وسط هذه الفوضى، عاد دونالد ترامب ليشكر أمير قطر على جهوده، ويدعو الله، حرفيا، أن يحفظ إيران و”إسرائيل”، وهذا دعاء لو أطلقه أي شخص في الشرق الأوسط لكان محط سخرية الجميع، لكنه من ترامب بدا وكأنه صلاة مخلصة على مذبح المصالح المتناقضة.

إيران تنفي… ثم تعترف بلباقة

لا تكتمل المسرحية دون مشهد الإنكار، فخرجت طهران لتنفي إطلاق أي صواريخ على قطر، ثم بعد دقائق، ظهر مسؤول إيراني على قناة الجزيرة ذاتها ليؤكد القصف، لكنه أصر على أنه تم “في إطار احترام سيادة قطر والعلاقات الأخوية”.

إنه احترام من النوع الذي يحمل في طياته 19 صاروخا؛ كنوع من المحبة الشرقية التي تُترجم بـ”نؤدبك لأننا نحبك”.

“إسرائيل” توافق… لأن الجميع تعب

المثير أن “إسرائيل”، التي لا توافق عادة على شيء دون سلسلة من المشاورات والتصريحات، أعلنت قبول وقف إطلاق النار بدون اعتراض، وفي سياق هذه القصة، يبدو أن “إسرائيل” اختارت أن “تمشيها” ببساطة، إما لأنها لم تفهم ما يجري، أو لأنها قررت أن ما يجري أكبر من قدرتها على السخرية.

ما الذي شهدناه حقاً؟

باختصار، قطر في هذا اليوم لم تكن مجرد دولة في خضم نزاع. كانت:

  • الهدف العسكري
  • الحليف الأمريكي
  • القاعدة المحورية
  • قناة التهديد
  • وسيط وقف إطلاق النار
  • والجهة التي تلقت الشكر من كل الأطراف، بما فيهم المعتدي

لقد قُصفت، ثم شكرت، ثم توسّطت، ثم نُفي قصفها، ثم تم تأكيده، ثم شُكرت مجددا.

إنه يوم كامل من الهراء المنظّم، حيث تتحول العلاقات الدولية إلى كاريكاتير حي.

من يحتاج للمنطق حين يتملك الدبلوماسية البهلوانية؟

في النهاية، هذا ليس مجرد حادث عابر، بل انعكاس لمرحلة كاملة من السياسة الخارجية، حيث لا شيء مستقر، ولا أحد يلعب الدور التقليدي، وحيث يمكن أن تُقصف دون أن تُغضب، وتُشكَر لأنك “مرِن”.

قطر، في هذا اليوم، لم تكن دولة فقط. بل كانت مشهدا مسرحيا يتحرك، ويضحك، ويصفّق لنفسه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *