الاختفاء الصامت: مصير ضباط البحوث العلمية في سوريا بين أسر المعرفة وأسر السلطة

لم تكن قضية اختفاء ضباط “البحوث العلمية” في سوريا مجرّد واقعة أمنية عابرة؛ بل هي نافذة صغيرة تُطلّ على مشهد أعمق حول كيف تُعامل الدول سلطاتها العلمية حين تصبح المعرفة جزءاً من معادلة الخوف، لا من معادلة التقدّم.

منذ نحو عام، تتواتر الأنباء عن اختفاء عدد من ضباط “مركز الدراسات والبحوث العلمية”، وهي المؤسسة التي شكّلت لعقود عقل الدولة التقنية وأداتها في التطوير العسكري، ومع أنّ هذه القضية تبدو كملف أمنيٍ معقّد، فإنّها في جوهرها اختبار لفكرة الدولة السورية ذاتها في حقبتها الجديدة؛ دولة ما بعد الحرب “السقوط”.

تفيد التقارير بأنّ مصير عددٍ من الضباط العاملين في مركز البحوث ما زال مجهولا منذ عام تقريبا، فيما تلتزم الحكومة السورية الصمت الذي يخفي ظلال ثقيلة، فالاتهامات التي تردّدها العائلات بأنّ السلطات نقلت بعض الضباط إلى خارج البلاد، إلى تركيا أو إسرائيل، وهي ليست مجرّد تكهّناتٍ طائشة، إنما انعكاس لانعدام الثقة الكامل بين المواطن ومؤسسات الدولة، ولعجز عن الوصول إلى المعلومة، حتى حين يتعلّق الأمر بمصير إنسان.

العقل الممنوع: حين تصبح الكفاءة تهديداً

ظل مركز البحوث العلمية منذ تأسيسه في سبعينيات القرن الماضي، أحد أكثر مؤسسات الدولة سرّية وتأثيرا، وهو يُعد النموذج السوري لمراكز البحوث الدفاعية في الدول الكبرى، حيث تولّى تطوير تقنياتٍ عسكرية واتصالاتٍ وأسلحة دقيقة.

الضباط المفقودون لم يكونوا جنودا تقليديين؛ فهم مهندسون وعلماء فيزياء وكيمياء، بنوا خلال سنواتٍ طويلة جسور المعرفة بين المختبر والميدان، لكن في بيئةٍ خاصة تصبح المعرفة سلاحا بحدّين؛ فهي تُعلي من شأن صاحبها، وتُثير حوله الشك أيضا.

حين ينهار النظام أو يتفكك، تتحوّل المعرفة إلى عبء، فالعالم الذي كان يوما “كنزاً قوميا” يصبح شاهدا غير مرغوب فيه، فالمعارف التي يمتلكها هؤلاء الضباط حول المشاريع الدفاعية، أو المواد الحسّاسة، أو الأنظمة التقنية تجعلهم في نظر الأجهزة الأمنية خطرا محتملا، حتى لو لم يرتكبوا شيئا، وكما في كل الأنظمة المغلقة، يصبح أول من يُعاقَب هو من يعرف أكثر.

اختفاء الدولة أم اختفاء الإنسان؟

مؤشّر تحضّر الدولة لا يُقاس بعدد مدارسها أو مصانعها، بل بقدرتها على تقبّل الحقيقة حين تكون مؤلمة، وفي سوريا اليوم، الحقيقة مؤلمة إلى حدٍّ يجعل الجميع يهرب منها.

الحكومة السورية ترفض الاعتراف بوجود الضباط في سجونها، والعائلات تتناقل أخبارا عن نقلهم إلى الخارج، بينما المنظمات الحقوقية عاجزة عن الدخول إلى مؤسسات الدولة للتحقق، فيصبح الفراغ في المعلومة والمساءلة والضمير العام هو السائد.

في البلدان التي تخرج من الحروب، تحتاج السلطة إلى ترميم عقدها الاجتماعي أولا، غير أنّ سلطات دمشق، كما يبدو، اختارت ترميم هيبتها الأمنية قبل ترميم ثقة الناس بها، وفي تلك المعادلة، تُدفن الملفات الحساسة تحت طبقاتٍ من السرّية، وتُحوَّل إلى مناطق محرّمة، لا يُسمح لأحد بطرح الأسئلة حولها.

لكن ما يغيب عن صانع القرار أنّ هذا التعتيم لا يحمي الدولة، بل يُضعفها، فالسلطة التي تُخفي أبناء البلاد خوفا من الحقيقة، هي سلطة تُعلن عمليا عجزها عن إدارة ما تملك من عقل وكفاءة.

من المعرفة إلى المعلومة: أزمة الشفافية

يُشير تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان (SNHR) إلى أنّ أكثر من 180 ألف شخص لا يزالون قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري حتى منتصف 2025، هذا الرقم ليس إحصاء فحسب، بل خريطة لثقافة قائمة على الإخفاء كوسيلة حكم.

قضية ضباط البحوث العلمية لا يمكن فصلها عن هذا السياق الأوسع، فالسلطة التي لا تُفصح عن مصير صحفيٍ أو ناشطٍ أو مدني، من الطبيعي ألا تُفصح عن مصير ضابطٍ يملك معرفة علمية حساسة، لكن الفارق أنّ اختفاء هؤلاء يُهدّد أيضاً ذاكرة الدولة التقنية، فحين يختفي العلماء، تختفي معهم سنوات من العمل المتراكم، وتُمحى من الوجود.

الأنظمة الاستبدادية، في جوهرها، تخشى الشفافية لأنها تُضعف قدرتها على الاحتكار، لذلك يصبح كل ملف علمي أو تقني موضوعا أمنيا، لكن في القرن الحادي والعشرين، لا يمكن بناء دولة دون أن تبني ثقة بين المعرفة والسلطة.

ما يحدث في سوريا اليوم هو العكس تماما؛ تُساق الكفاءات إلى الظل، وتُختزل الدولة في جهازها الأمني، بينما يفرّغ جهازها العلمي من محتواه الإنساني.

إسرائيل وتركيا.. فرضيات أم إشارات؟

الاتهامات التي تحدّثت عن نقل الضباط إلى تركيا أو “إسرائيل” تبدو، حتى اللحظة، بلا دليل ملموس، لكنها تثير تساؤلا مشروعا، فلماذا تكتسب هذه الفرضيات مصداقية في المخيال الشعبي؟

الجواب بسيط ومؤلم، فغياب المعلومة الرسمية يفتح الباب أمام كل الروايات البديلة، فحين تغيب الشفافية، تتحول الشائعة إلى أداة معرفة، ويتحوّل الخيال الشعبي إلى مصدر وحيد للحقيقة.

ثمّة سيناريوهات عدة تُطرح في الكواليس:

  • أن تكون بعض الكوادر نقلت بالفعل ضمن ترتيبات أمنية خارجية عقب سقوط النظام، حماية لمعلوماتٍ أو أسرار حساسة.
  • أو أن يكون الاختفاء تغطيةً على تصفية داخلية لمنع تسريب المعلومات.
  • أو أن يكون الضباط لا يزالون قيد الاحتجاز في أماكن سرّية ضمن الأراضي السورية.

كلّ هذه السيناريوهات تظل مجرد فرضيات، لكنّها تكشف أن الدولة فقدت القدرة على الإقناع.

العلم كمرآة للحرية

ثمة بعد فلسفيّ في هذه القضية يتجاوز السياسة، فالعلم، في جوهره، يقوم على الشفافية وعلى التجربة المفتوحة والمساءلة والمشاركة، حين يُختطف العالم أو يُخفى، يُختطف معنى العلم نفسه.

الكوادر التي كانت يوما رمزا للحداثة الوطنية، تحوّلت اليوم إلى رموز للغموض والريبة، وهذه الصورة تفقد الدولة ما هو أثمن من الكفاءات؛ تفقد صورتها ككيانٍ عقلاني.

في بلدانٍ مثل ألمانيا أو اليابان، حين هُزمت الأنظمة الشمولية، كان أول ما فُعل هو إعادة الاعتبار للعلماء، لأنهم الضمانة لنهضة جديدة، وفي سوريا فإنّ ما نشهده هو استمرار منطق الحرب، فكل ما هو مستقل يُعد تهديدا، وكل من يفكر بحرية يُصنّف خصما.

المسؤولية الدولية والواجب الأخلاقي

الاختفاء القسري ليس مجرد انتهاكٍ داخلي؛ إنه جريمة عابرة للحدود وفق القانون الدولي، واتفاقية الأمم المتحدة لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري (2006) تُلزم الدول بالتحقيق والإفصاح، لكنها أيضا تمنح المجتمع الدولي حق الضغط والمساءلة.

ومع أن معظم المنظمات الحقوقية السورية، مثل الشبكة السورية لحقوق الإنسان والمؤسسة المستقلة لشؤون المفقودين، تعمل ضمن موارد محدودة، فإنّ عليها أن تُدرج ملف الكفاءات العلمية ضمن أولوياتها، لأن فقدان هذه الفئة لا يُضعف العدالة فحسب، بل يُضعف فرص إعادة البناء العلمي لسوريا المستقبل.

الدعوة اليوم ليست فقط لفتح تحقيقٍ في مصير هؤلاء الضباط، بل لتأسيس ثقافة جديدة للمعرفة والمسؤولية، فلا يمكن أن تنهض دولة تُخفي عقولها.

من دولة الخوف إلى دولة القانون

إذا كان القرن العشرون علمنا أن القمع يبني سلطة، فإن القرن الحادي والعشرين يثبت أنّه لا يبني دولة، فالقوة لم تعد تُقاس بعدد البنادق، بل بقدرة المجتمع على إنتاج معرفةٍ حرة.

اختفاء ضباط البحوث العلمية، أيا تكن ملابساته، ليس مجرد مأساة إنسانية، بل مرآة لانهيار علاقة الدولة بعقلها العلمي، فحين تُصبح المؤسسات الأكاديمية والعسكرية أدوات للطاعة لا للإبداع، ينطفئ الضوء الأخير في نفق الحداثة.

إنّ إعادة هؤلاء الضباط إلى الواجهة أو على الأقل كشف مصيرهم، ليست مجرد خطوة في العدالة الانتقالية، بل بداية لاستعادة فكرة سوريا الممكنة التي لا تخاف من علمائها، بل تبني مستقبلها على أيديهم.

السؤال الذي يجب أن يُطرح ليس أين هم؟، بل كيف وصلت دولة تمتلك أحد أقدم مراكز البحث في الشرق الأوسط إلى مرحلة تُخفي فيها علماءها؟

الجواب، في النهاية، لا يكمن في سجن أو في صفقة غامضة، بل في البنية العميقة للدولة السورية التي لم تتعلّم بعد أن المعرفة، مهما كانت خطيرة، تظل أقل خطرا من الجهل.

الاختفاء الصامت: ضباط البحوث العلمية في سوريا

الاختفاء الصامت: ضباط البحوث العلمية في سوريا

رسم بياني تفاعلي يكشف عن أبعاد اختفاء ضباط مركز الدراسات والبحوث العلمية بين أسر المعرفة وأسر السلطة

نظرة عامة على الاختفاءات

180,000+
مختفٍ قسرياً في سوريا
عام
مدة الاختفاء

تخصصات ضباط البحوث العلمية

“هؤلاء الضباط لم يكونوا جنوداً تقليديين؛ كانوا مهندسين وعلماء فيزياء وكيمياء، بنوا خلال سنواتٍ طويلة جسور المعرفة بين المختبر والميدان.”

الفرضيات المطروحة حول مصير الضباط

الجوانب الإنسانية للقضية

شباط 2025
اختفاء العميد حبيب عبد الكريم الحوراني من حمص
نيسان 2025
عائلات الضباط تعلن عن يأسها من البحث في السجون الرسمية
حزيران 2025
منظمات حقوقية تطلق حملة للكشف عن مصير ضباط البحوث العلمية

الآثار المترتبة على الاختفاء

تهديد ذاكرة الدولة التقنية: اختفاء العلماء يعني فقدان سنوات من العمل المتراكم
انهيار الثقة بين الدولة والكفاءات: المعرفة تصبح عبئاً في بيئة استبدادية
تأثير طويل الأمد على إعادة الإعمار: فقدان الكفاءات العلمية يضعف قدرة سوريا على النهوض

المقارنة الإقليمية: حالات الاختفاء القسري

تم إنشاء هذا الرسم البياني بناءً على تحليل مقال “الاختفاء الصامت: ضباط البحوث العلمية بين أسر المعرفة وأسر السلطة”

جميع البيانات مستمدة من تقارير المنظمات الحقوقية السورية والدولية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *