وفاة سمر إسماعيل.. قصة سورية تكشف نفاق المنظمات الدولية

في مساءٍ بارد من تشرين، حين بدأت رطوبة الغاب تلتهم آخر دفء من الطريق الترابي، كانت سمر إسماعيل تمشي وحدها… امرأة خمسينية، بوجهٍ أنهكته السنين، تمسك بطرف معطفها المهترئ وتخطو نحو بيت شقيقتها في دعتور دمسرخو، ولم تكن تعلم أن تلك الخطوة ستكون الأخيرة في رحلةٍ قصيرة بين قريتين، تحوّلت فجأة إلى فصل جديد من المأساة السورية لا يجد من يقرأه، إلا حين يفوت الأوان.

ليلتان كاملتان مرّتا على اختفائها ولم يدرِ أحد أين اختفت سمر، ولا كيف تلاشت في هذا البلد الذي تبتلع طرقاته أجساد النساء بصمتٍ مريب، ثم عند فجر اليوم الثالث، وجدها بعض المارة في الغاب، ملقاة على جانب الطريق، فاقدة الوعي، جسدها مليء بالكدمات، وروحها مُثقَلة بالخوف.

حملوها إلى أقرب منزل.. سكبوا على وجهها الماء، وتمتموا بأدعية الأمهات، وسألوها بخفوت: “من أنتِ يا خالة؟”. أجابت بصوتٍ واهن: “أنا سمر… أبحث عن أختي”.

أوصلها الناس إلى شقيقتها التي أوصلتها إلى بيتها بعد أن ازدادت حالتها سوءا، وفي الصباح التالي، كتب نجلها على صفحته في “إنستغرام” جملة قصيرة تقطر وجعا:

“رحلت أمي سمر إسماعيل… لم تحتمل هذا العالم.”

رحلت سمر كما تعيش آلاف النساء في سوريا بصمت تام، بين العزلة والفقر والخوف، ودون تحقيق، ولا ضجيجٍ، وبلا صورة على صفحة أممية، ودون أن تتحوّل قصتها إلى شعارٍ في حملة عالمية لحقوق الإنسان.

امرأة تموت… والعالم يغير الموضوع

حين تموت امرأة في مكانٍ ما من الشرق، تُعلن الأمم المتحدة “الأسف العميق”، وتغرد المنظمات النسوية ببياناتها المكررة عن “تمكين المرأة” و”محاربة العنف القائم على النوع الاجتماع”.
لكن لا أحد يسأل: من كانت هذه المرأة؟ ماذا كانت تحلم؟ وكيف ماتت؟

سمر لم تكن ناشطة، ولا إعلامية، ولا “وجها رمزيا” للحريات، بل مجرد امرأة عادية، من قريةٍ نائية، تحمل فوق كتفيها عبء العائلة ومطر الشتاء، ولم تكن تعرف لغات الأمم المتحدة الستّ، لكنها كانت تعرف لغة الوجع.
ما من منظمة، من تلك التي تنصب خيامها في المؤتمرات الباذخة بجنيف ونيويورك، رأت في موتها خبرا يستحق بيانا واحدا.

ربما لأن موتها لا يخدم “السردية السياسية” لأي طرف.
ربما لأنها ليست في المكان المناسب جغرافيا.
وربما لأنها امرأة سورية، من “الأقليات”، من أولئك الذين سقطوا في منطقة رمادية بين خرائط النفوذ وخرائط الضمير.

النفاق المؤسسي

منظمات الأمم المتحدة التي تتحدث عن “المرأة في النزاعات” تمتلك ميزانيات بمئات الملايين، وتصدر تقاريرها الممهورة بشعارات الأمل والمساواة، لكن حين تقع مأساة حقيقية لا يمكن توظيفها سياسيا تصمت تماما.
لا مؤتمر استثنائي، لا جلسة عاجلة، لا بيان متضامن.

يتحدثون عن حقوق المرأة حين تكون المرأة وسيلة ضغط، ويرفعون صورها حين تكون رمزا لنظامٍ يعارضونه، أو بطاقة تمويل لمشروعٍ جديد، أما حين تكون امرأة مجهولة من الغاب، فلا أحد يذكرها.
هذا هو النفاق الأممي في أوضح صوره؛ تضامن انتقائي، وعدالة مشروطة، وإنسانية مخصصة لمناطق النفوذ.

صمت كالقبور

أهل سمر يقولون إنهم رأوا آثار الضرب على جسدها، وعلامات زرقاء على كتفيها، وكدمات على وجهها، ولم يجرِ أي تحقيق رسمي بعد، ولم تُصدر السلطات المحلية بيانا واضحا.
لكن حتى هذا الغموض، الصمت، التجاهل بات هو القاعدة لا الاستثناء.

في سوريا، كما في غيرها من دول الصراع الطويل، تُعامل الجرائم ضد النساء كحوادث عرضية، لا كقضية عدالة، ويُستقبل موت امرأة بالأسى العابر، ثم يُطوى في ملفات النسيان.
وفي كل مرة تموت فيها امرأة مجهولة، يتواطأ الجميع على نسيانها من الدولة، إلى المنظمات، وصولا إلى  الإعلام، وحتى المجتمع الذي يخاف من طرح الأسئلة.

الحقيقة التي ترفض التمويل

القصص التي لا تُدرّ أرباحا لا تُروى، وهذه هي الحقيقة المرة في عالم الصحافة الإنسانية الحديثة.
من السهل أن تكتب عن ناشطة إيرانية تتحدى الحجاب الإلزامي، فالقضية تستهوي الرأي العام الغربي وتُكسب التمويل.
لكن من الصعب أن تكتب عن امرأة سورية فقيرة، فقدت حياتها على طريقٍ ريفي، لأن قصتها “لا تبيع”.

ومع ذلك، هذه هي القصص التي تُظهر إنسانيتنا الحقيقية والتي لا أحد يريد سماعها.
سمر لم تكن بحاجة إلى حملة عالمية، بل إلى نظام قانونيّ يحميها، لم تكن تحتاج إلى مؤتمر نسوي، بل إلى طريقٍ آمن، ومستشفى يستقبلها قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة.

ما بعد الموت

في بيتها البسيط، جلست ابنتها على الأرض تلمس وشاح أمها، وتهمس: “كانت تقول دائما إن الله لا ينسى أحدا… فهل نسيها الله فعلا؟”
سؤال صغير، لكنه يوجّه صفعةً إلى ضمير العالم بأسره.
من المسؤول عن موت سمر؟
هل هو من اعتدى عليها؟ أم من تجاهلها؟ أم من اعتاد أن يرى المأساة اليومية كإحصاء في تقريرٍ دولي؟

في النهاية، تموت النساء البسيطات آلاف المرات قبل أن يمتن جسديا، فيسقطن حين لا يصدّقهن أحد، وعندما لا يجدن بابا يطرِقنه، وفي الزمن الذي يصبح العنف عليهن “خبرا ثانويا”.

جريمة بدون مجرم

لا توجد كاميرات في الغاب، ولا تقارير شرطة منشورة.
لكن هناك أدلة على مستوى أعمق؛ أدلة أخلاقية على تقاعس عالمٍ كامل عن حماية الأضعف فيه.
العنف ضد النساء في سوريا كما في أفغانستان، أو الكونغو، أو غزة ليس مجرد نتيجة حرب، بل نتيجة منظومة أممية تفرّق بين الدماء وفقا لمكان ولادتها.

أمام موت سمر، كلّ بيانات الأمم المتحدة عن “تمكين المرأة” تتحول إلى كليشيهات باهتة.
والأسوأ أن لا أحدا من تلك المنظمات يطلب حتى فتح تحقيقٍ ميدانيّ لمعرفة ما جرى.
فالموت في قرية سورية صغيرة لا يصنع عناوين دولية.

وجوه بلا أسماء

إن مأساة سمر ليست استثناء، بل هي القاعدة التي تُخفيها الإحصاءات.
في كل قرية وبلدة، هناك نساء يواجهن مصيرا شبيها من اختطاف، وإساءة، وحرمان من العدالة.
لكن العالم لا يرى سوى من يختار رؤيته.
النساء في الشرق الأوسط لا يحتجن إلى خطاب “التمكين” القادم من أبراج نيويورك، بل إلى عدالة حقيقية تحميهن حين تُكسر أبواب بيوتهن في الليل.

موت لا يجب أن يُنسى

ربما لم تكن سمر تعرف أن اسمها سيُكتب يوما في خبر.
ربما كانت تحلم فقط بأن ترى أبناءها في أمان، وأن تقضي شيخوختها بهدوء في بيتها المتواضع.
لكن رحيلها اليوم يطرح سؤالا علينا جميعا:
ما قيمة الإنسانية التي نحتفل بها في المؤتمرات إذا لم تمنع موت امرأة بسيطة على طريقٍ مظلم؟

في زمنٍ تُقاس فيه العدالة بعدد التغريدات، تظلّ سمر إسماعيل تذكيرا مرا بأن الكرامة لا تحتاج جواز سفر أممي.
إنها تحتاج فقط إلى ضمير لا يُباع، وعدسة لا تخاف أن تنظر إلى ما لا يريد الآخرون رؤيته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *