من معارك السويداء تتشكل سوريا بشكل مختلف، فالإخفاق السياسي لم يكشف فقط جهلا بالتاريخ السياسي، بل تجاوز أيضا لإدارة الجغرافية السورية التي صنعت مجالات ثقافية تبدو خطرة، فالحد الفاصل بين التناقض والتعايش غاب في “حدث السويداء”، وتقدير المخاطر تم قياسه على ما حدث في الساحل السوري، فانتهت جولة من الدم والنار لتفتح لـ”إسرائيل” مساحة استثمار سياسي في الجنوب السوري،
خطاب الرئيس الانتقالي السوري بعد الأحداث جاء بتوقيت يضع العديد من إشارات الاستفهام، حيث تم بثه فجر الخميس في لحظة “السكون الجماهيري”، ولكن الغرابة أنه توقيت محسوب على سياق الثقافة التي تنظر للمجتمع على أنه “مشبع” بالانتظار، فهو سيبقى متحفزا لما يمكن أن يُقال بعد أو انتهت الجولة، وأصبحت النتائج واضحة، فما الذي يمكن أن يظهر عبر الخطاب سوى طبيعة تفكير السلطة السياسية، أو حتى سرديتها لحدث وضع الأجيال السورية ضمن أجواء حرب لم تشهدها دمشق منذ عام 1973.
اللغة العاطفية في مواجهة خطاب الكراهية
في كل اللحظات القاسية التي شهدتها السويداء كان “خطاب الكراهية” هو الأكثر تدميرا، فوسائل التواصل الاجتماعي وضعت “حربا اجتماعية” خاصة، وكان افتتاح الرئيس خطابه بكلمات “الشعب السوري حقق انتصارات عظيمة بتضحياته” تبدو صيغة نمطية تحاول استرجاع الصور العاطفية بعد سبعة أشهر من انهيار النظام السابق، فالرئيس الشرع يبني صورة الشعب-الشهيد، والشعب-البطل، والشعب-الضحية، لتحقيق هدف مزدوج؛ تخفيف الاحتقان الشعبي، وربط الأزمات الداخلية (كأحداث السويداء) بعدو خارجي مشترك “إسرائيل”.
لكن الحدث وما رافقه من انقسام سوري تجاوز وبشكل فعلي الصورة التي رافقت نهاية سلطة البعث، فالحديث عن “ثورة من أجل نيل الحرية” يُظهر محاولة خطابية لاحتواء كل الأطياف داخل خطاب شرعية واحدة، في وقت وعلى المستوى الذي يتجاوز “الخطاب الرسمي” هناك حالة مختلفة تظهر في التناقض الصارخ ما بين “نيل الحرية” والمقاطع المصورة التي تظهر أن تلك “الحرية” هي “غلبة” لطرف ضد آخر.
تحويل المأزق الداخلي إلى مؤامرة خارجية
جوهر الخطاب كان ربط الفوضى في السويداء بمخطط “إسرائيلي لخلق الفتن” وتقويض الاستقرار، ومحاولة إظهار “عدو واضح” وسط واقع سياسي وصفه الشرع قبل شهرين تقريبا بعبارة واضحة:” لدى سوريا وإسرائيل أعداء مشتركون، ويمكن للبلدين لعب دور رئيسي في الأمن الإقليمي”، هذا التحويل في إعادة رسم العدو من الصعب أن يخلق “قضية جامعة”، فأهالي جبل العرب لا يمكن أن يتحولوا وسط “حمّى” تجتاح وسائل التواصل الاجتماعي إلى مكون من مكونات وحدة وطنية تُستهدف من “العدو الصهيوني”.
المفارقة وهو تصوير “إسرائيل” كعدو استراتيجي دائم – وهي كذلك– لكن الدولة السورية، بدل أن تواجه العدوان، تُقدّم نفسها كضحية وأداة ضبط داخلية فقط، إنها تقاتل خارج الجبهات، وعلى أراضيها ضد ما تصفهم بـ”مجموعات خارجة عن القانون”، وهذا الانكفاء يُغطى بعبارات وطنية عالية النبرة، لكنها تخفي حالة من العجز العسكري والاستراتيجي.
الخط الرفيع بين الاحتواء والتهميش
الحديث عن “أهلنا الدروز” احتل فقرات طويلة من الخطاب، واتسمت بنبرة أبوية، فيها من “الرعاية” أكثر مما فيها من “الاعتراف المتكافئ”، الدولة، بحسب الخطاب، تدخلت لتضع الأمور في نصابها، وعندما فشلت، كُلِّف “مشايخ العقل” و”الفصائل المحلية” بضبط الأمن.

هذا التحول من احتكار الدولة للسلاح إلى تفويضه للفصائل، يُفهم ضمنياً كإعلان فشل أمني، لكنه يُقدَّم للجمهور كـ”حل حكيم يراعي الخصوصية المحلية”، وهي لعبة لغوية لتبرير التراجع عن مبدأ السيادة مقابل الحفاظ على الاستقرار.
الخطاب لم يعالج السؤال الحقيقي حول كيف نشأت هذه الفصائل؟ ولماذا ترفض الحوار؟ ومتى تحوّلت السويداء من رمز مدني سلمي إلى ساحة صراع مسلح؟ كل ذلك تم تجاوزه لصالح بناء رواية واحدة؛ “عصابات خارجة عن القانون” مدعومة إسرائيلياً.
من منطق المواجهة إلى منطق التفاوض عبر وسطاء
المعضلة الكبرى ان الرئيس نفسه يعترف أن ما أنقذ الموقف هو “تدخل الوساطة الأمريكية والعربية والتركية”، وهو اعتراف نادر بثقل القوى الإقليمية والدولية في القرار السيادي السوري، ويحمل هزيمة ضمنية لمنطق “الدولة القوية”.
الجماهير لا تحب الاعتراف بالهزيمة، لذلك يُغلف الخطاب ذلك بسردية “الحكمة الوطنية”، ويكرر أن القرار جاء من “مصلحة السوريين”، لا من ضغط الخارج، لكن التناقض صارخ يظهر في الحديث عن التهديد الإسرائيلي ويقابله غياب أي رد عسكري مباشر، ثم يُسند الأمن في المحافظة لفصائل محلية بدل الجيش، بينما يُشكر الوسطاء على نزع الفتيل.
شيطنة الخصوم
الرئيس يُؤكد أن “الدولة السورية هي دولة الجميع” وأنها “حلم كل سوري”، في الوقت نفسه، يصوّر معارضيها كمجرمين وعملاء ومخربين، ولا مجال في الخطاب لاعتراف بوجود مظالم مشروعة أو مطالب محلية أو حتى سوء إدارة.
هذا النمط الثنائي (نحن = الدولة = الوطن، هم = الفوضى = الخارج) يعكس ـ”الرمزية المطلقة” التي تستخدم في مخاطبة الجماهير، ويُبقي الجراح مفتوحة.

خطاب أحمد الشرع ليس مجرد بيان سياسي، بل هو محاولة هندسة لرأي عام مأزوم، لكن هذه اللغة، رغم قوتها الرمزية، تتعامل مع انهيار الثقة، ففي كل عبارة وطنية، هناك اعتراف مبطن بعجز الدولة، وفي كل هجوم على إسرائيل، تذكير بأن لا أحد يرد، وبان دمشق كانت تفاوض “تل أبيب”، وفي كل دعوة للوحدة، تغيب المصالحة الشجاعة مع الذات.
لكن القطيع لا يقرأ ياصديقي
ولايرى إلا كما يحب أن يرى
وهنا المشكلة
الجمهور مغيب ومحتل العقل