يبدو مشروع “سوفا 53 الإسرائيلي” في الجولان أعمق من مجرد مسار هندسي أو حاجز ترابي، فما يظهر كتحصين عسكري يدخل في عملية إعادة تشكيل للجغرافيا السياسية في جنوب سوريا.
لا تحفر خنادق فحسب، بل ترسم خطا جديدا للتوازنات الإقليمية، والمشروع يكشف عن كيفية تحول التضاريس إلى أداة استراتيجية لإدارة التهديدات وإعادة هندسة حدود غير مستقرة.
الجغرافيا كأداة سيطرة
يمثل الجولان منصة عسكرية مرتفعة تطل على دمشق من جهة وعلى حوض الأردن من جهة أخرى، منذ حرب 1967 أصبح التحكم بالمرتفعات جزءا من معادلة الردع “الإسرائيلي”، لكن التحولات بعد 2024 في سوريا أوجدت واقعا مغايرا بعد انهيار النظام في دمشق، فتآكلت خطوط فض الاشتباك الموقعة عام 1974.
عبر الواقع السوري الجديد يكتسب مشروع “سوفا 53” معنى يتجاوز الأمن المباشر، فهو محاولة لترسيخ حدود عملية بديلة للحدود القانونية، عبر سواتر ترابية وخنادق تشق داخل الأراضي السورية.
الطريق والخنادق الممتدة من شمال حضر إلى غرب قرية العشة ليست مجرد تحصينات، فهي إعادة توزيع لمشهد الجغرافيا، بحيث تصبح المرتفعات العازلة تحت سيطرة إسرائيلية مباشرة، وتتحول مساحات واسعة من الأراضي الزراعية والحراج إلى مناطق محظورة، فهو يتشابه مع جدران أمنية في أماكن أخرى في فلسطين، لكنه يختلف بكونه داخل أرض غير معترف دوليا بضمها.
الوظيفة المزدوجة: دفاع وهجوم
إسرائيل تبرر المشروع باعتباره حاجزا دفاعيا لمنع التسلل، فـ”الجيش الإسرائيلي” وصف السواتر بأنها وسيلة لحماية المستوطنات في الجولان، لكن القراءة العسكرية تظهر وظيفة مزدوجة، فهي توفر نقاط سيطرة على الحركة الميدانية السورية، وتسمح بمراقبة أوسع، وتشكل أيضا منصة انطلاق لعمليات هجومية محتملة، سواء للتوغل المحدود أو لقطع خطوط إمداد بين دمشق وجنوب لبنان.
هذه الوظيفة المزدوجة تتسق مع “عقيدة إسرائيل الأمنية” في الدفاع المتقدم داخل أرض الخصم لمنع وصول الخطر إلى الداخل، ووفق هذا الشكل يمكن النظر إلى “سوفا 53” كامتداد ميداني لمبدأ “المعركة بين الحروب”، حيث تستخدم “إسرائيل” أدوات هندسية وجغرافية لتقليل فرص الاحتكاك المباشر مع احتمال ظهور مقاومة ضدها عبر الجولان، لكنها في الوقت نفسه تخلق واقع ميداني يمنحها حرية مناورة مستقبلية.
البعد البيئي والاجتماعي
عمليا، ما جرى في حرش كودنة وجباتا الخشب ليس مجرد اقتلاع للأشجار ولا مجرد ضرر بيئي، ففي الصراع طويل الأمد، الغابة والمزرعة ليستا كيانين طبيعيين فقط، بل مكونات لبنية اجتماعية واقتصادية، وعندما يُدمّر الغطاء النباتي، لا تُفقد الموارد الطبيعية فحسب، بل تُقطع السلسلة التي تربط العائلة بالأرض، والمجتمع بالمجال الحيوي الذي يمنحه الاستقرار.
تاريخ الجغرافيا السياسية يبين أن السيطرة لا تتحقق فقط عبر المواقع الاستراتيجية المرتفعة أو النقاط العسكرية، بل عبر إعادة تشكيل المجال الحيوي للمجتمع المحلي، الأرض الزراعية والحراج ليست مساحة فارغة، بل هي آلية لإنتاج الحياة من غذاء وخشب وأعلاف، ماء وفرص عمل، وعندما يُحرم المجتمع من هذه الدورة، يتعرض لتفكك داخلي، وتصبح إمكانية البقاء في المكان عبئا.
بذلك، يتحول “سوفا 53” إلى أداة مركّبة؛ فهو لا يعيد توزيع القوى العسكرية وحسب، بل يعيد توزيع الموارد، والنتيجة هي حالة اختناق صامتة، فالأسر التي كانت تعيش من الزراعة أو الرعي تفقد مصدر الدخل، فتضطر للهجرة أو الاعتماد على بدائل هشة، وهذه العملية ليست جانبية بل جزء من المنطق ذاته في تفريغ الأرض من سكانها أو جعل بقائهم دون جدوى.
إذا نظرنا إلى المسألة بزاوية أخرى، فإن المسار الهندسي للمشروع ليس سوى القشرة الظاهرة، فعمقه هو خلق فراغ سكاني حول المناطق العسكرية الجديدة عبر الضغط البيئي والاقتصادي، ما يدفع المجتمعات المحلية إلى الانسحاب غير المعلن، وهذا لا يحتاج إلى قرارات ترحيل أو قصف شامل، فيكفي أن تتحول الحياة اليومية إلى سلسلة خسائر صغيرة، وفي المدى المتوسط، تكون النتيجة واحدة عبر تراجع الحضور البشري المحلي.
اللافت أن هذا النهج يتناغم مع منطق استراتيجي أوسع، فالدولة الحديثة أو القوة المسيطرة تدرك أن الجغرافيا لا تُقرأ فقط بالخرائط العسكرية بل بالخرائط الاقتصادية والاجتماعية، فالمرتفعات تمنح رؤية واسعة، لكن السيطرة على الحقول تمنح قدرة على إعادة هندسة المجال البشري نفسه، وهنا يتقاطع الأمن مع الاقتصاد، وتصبح التضاريس وسيلة لإنتاج واقع سكاني جديد.
بهذا المعنى، “سوفا 53” أبعد من مجرد مشروع أمني، لأنه ممارسة منهجية لتحويل الطبيعة إلى أداة سياسية، وما يبدو كجدار ترابي أو خندق عسكري هو في العمق سياسة طويلة الأمد تهدف إلى تغيير الشروط التي تسمح للمجتمع المحلي بالعيش، والهدف إعادة توزيع السكان والموارد بما يخدم استقرار السيطرة الإسرائيلية، ويحوّل الجغرافيا من مجال مشترك إلى مجال مقفل تحت سلطة طرف واحد.
خرق الاتفاقيات الدولية
اتفاق فك الاشتباك لعام 1974 نص على مناطق فصل تحت رقابة قوات الأمم المتحدة “أوندوف”، والمشروع يتجاوز هذا الاتفاق بشكل مباشر، لأنه يدخل إلى عمق المنطقة العازلة، ويغير طابعها من فض عسكري إلى مجال سيطرة “إسرائيلية”، فالأمم المتحدة وصفت الإجراءات بأنها انتهاك صارخ، لكن ضعف قدرة “أوندوف” على التدخل يجعل من هذا التوصيف بلا أثر عملي، ويتحول الانتهاك مع مرور الوقت إلى عرف ميداني جديد يرسخ لصالح الطرف الأقوى.
إن ما يتكشف هنا هو منطق الصراعات الطويلة في الشرق الأوسط، فالاتفاقيات تصبح إطارات نظرية أكثر منها قواعد ملزمة، بينما الواقع يُصاغ على الأرض عبر الجرافات والسواتر والوجود العسكري، وحين تعجز قوة مراقبة دولية عن فرض التزاماتها، تتحول الخرائط من وثائق سياسية إلى أوراق بالية، وتصبح الجغرافيا هي الحكم الفعلي، فالطرف القوي لا يكتفي بخرق النصوص بل يراكم أسبقية ميدانية، فيغدو ما كان استثناء تكتيكيا جزءا من النظام الإقليمي الجديد، حيث يتم استبدال القانون الدولي بميزان القوة الصامت المتمثل في السيطرة المادية على الأرض.
القراءة الإسرائيلية الداخلية
الصحافة الإسرائيلية لم تتناول “سوفا 53” كعنوان مباشر، لكن النقاشات حول ترتيبات الجيش في الجولان تكشف المنطق نفسه، فالتمركز في العمق السوري ليس مؤقتا بل خيارا طويل الأمد، وتصريحات وزير الدفاع “إسرائيل” كاتس بأن القوات ستبقى في المنطقة الأمنية إلى أجل غير مسمى تعكس هذا التوجه.
داخل إسرائيل يجري تصوير التوسع باعتباره ضرورة أمنية، بينما يتم تجاهل الكلفة القانونية أو الدبلوماسية، هذا الصمت الإعلامي الداخلي يبدو مقصودا لتجنب إثارة نقاش داخلي حول خرق الاتفاقيات الدولية.
الوظيفة الإقليمية
المشروع لا يمكن فصله عن المشهد الإقليمي “إسرائيل تواجه ثلاث جبهات: غزة، لبنان، وسوريا، وفي غزة تخوض حرب استنزاف مفتوحة، وتواجه في لبنان احتمال عودة تهديد صاروخي من حزب الله، أما في سوريا فإإن الاستثمار في ضعف السلطة الجديدة في دمشق فرصة ربما لن تتكرر.
اليوم يصبح الجنوب السوري مجالا حيويا يجب تأمينه، و”سوفا 53″ يوفر لـ”إسرائيل” فرصة لتقليص المخاطر العسكرية وزيادة الفرص السياسية، وبذلك تخفف الضغط على الجيش في حال اندلاع مواجهة شاملة متعددة الجبهات.
أبعاد استراتيجية طويلة المدى
إذا استمر المشروع وتوسع فإنه سيغير شكل الحدود السورية الإسرائيلية عمليا، وما يجري هو إعادة ترسيم للخطوط عبر أدوات هندسية، وهذا يخلق سابقة ستستغلها إسرائيل لاحقا في مفاوضات دولية عبر تحويل الأمر الواقع إلى قاعدة تفاوض.
على المدى البعيد يمكن أن يؤدي “سوفا 53” إلى إعادة تعريف المنطقة العازلة ليس كمنطقة فصل بل كمنطقة “سيطرة إسرائيلية”، وهذا يغير معادلة الأمن الإقليمي بأكملها.
مشروع “سوفا 53″ ليس مجرد خندق أو ساتر، إنه استراتيجية جغرافية جديدة لـ”إسرائيل” في الجولان، وعبره تسعى تل أبيب إلى إدارة المخاطر الإيرانية، وفرض أمر واقع جديد، وتثبيت حدود أمنية عملية تتجاوز النصوص القانونية، وغياب رد دولي فعال يوفر غطاء غير معلن لهذا التحول.
بالنسبة للسكان المحليين فالنتيجة خسارة الأرض والرزق، أما دمشق فالمشروع يحد من قدرتها على استخدام الجنوب سياسيا وعسكريا، و”سوفا 53″ هو أداة لإعادة رسم الخريطة وفق منطق القوة، حيث تتحول الجغرافيا إلى سياسة صلبة لا يمكن تجاهلها.


