الجغرافيا تسبق النوايا داخل المشهد المترنح لشرق المتوسط، والتاريخ يتم استحضاره في كل قرار سياسي مهما صَغُر، وتظهر ردود الفعل اللبنانية تجاه أحداث السويداء الأخيرة (13–16 تموز 2025) أكثر من مجرد مواقف متفرقة، بل سويّات متشابكة من التوترات التاريخية والطائفية والجيواستراتيجية، تتحرك مع كل لحظة اضطراب إقليمي، وما نشهده ليس رد فعل، بل مرآة لوضع داخلي هش، يتفاعل مع الجوار كما يتفاعل مع ذاته.
عمليا لا يمكن قراءة المواقف اللبنانية، لا الرسمية ولا الشعبية، بمعزل عن الاصطفافات الطائفية، والهواجس الأمنية، والانقسامات المزمنة حول شرعية السلاح، والحدود الفاصلة، أو المتداخلة، بين الدولة والمقاومة، وبين الهوية والانتماء، وبين لبنان كوطن ولبنان كجبهة.
طائفة على الخريطة لا في الهامش
تحليل مجتمعات الهامش ضمن الدولة القومية تبدو الأقليات الطائفية مؤشرات مبكرة لتصدعات الدول، وما يحدث في السويداء ليس “شأنا درزيا داخليا” كما يفضل البعض تصويره، بل هو تجلٍ لخط الصدع السوري–اللبناني الذي لم يُردم منذ اتفاق الطائف، وبالنسبة للبنان، لا يمكن فصل السويداء عن الجبل، ولا الجبل عن المعادلة السياسية الوطنية.
جنبلاط، بورجوازي الطائفة العابر لمعادلات الطائفية، يدعو إلى “حل داخل إطار الدولة السورية”، والرسالة هنا مزدوجة عبر رفض للتدويل، والتذكير الضمني بأن استقرار دروز سوريا يعني استقرار دروز لبنان، فخطابه يوازن بين الانتماء القومي والعصب الطائفي، وهو بالضبط ما يحتاجه زعيم يعرف أين تقع حدود اللعبة.
وئام وهاب: الخطاب ما قبل الجغرافي
أما وئام وهاب فاختار “الانفجار الرمزي”، “فجيش التوحيد” ليست مجرد خطوة خطابية؛ إنها محاولة لتشكيل جغرافيا موازية، فالميليشيا هنا ليست فقط أداة أمنية، بل هندسة اجتماعية في غياب الدولة، وبدعوته إلى “تسليح الشباب” و”تنظيم مقاومة مستقلة”، يحاول وهاب تشكيل خريطة جديدة للدروز، ليس فقط داخل سوريا، بل عبر حدود سايكس–بيكو المتآكلة أصلًا.
طلال أرسلان: الدبلوماسية الخائفة
طلال أرسلان، من جهته وقف بين الرمزية السياسية والقلق الوجودي، ودعوته لـ”حماية دولية” تتناقض مع تاريخ الدروز القائم على الانكفاء والاعتماد على الذات، لكنه، كسليل إقطاع سياسي قديم، يدرك أن الصمت على المجازر لم يعد مجديا، وأن التردد في مخاطبة الخارج لن يوقف التدهور الداخلي، وأرسلان، بعكس وهاب، لا يريد جغرافيا جديدة، بل يريد استعادة شرعية الدولة، السورية تحديدا، قبل أن ينفلت الميدان.
البرلمان اللبناني: ساحة الترجمة الطائفية
الردود البرلمانية على الأحداث كشفت كيف يتحوّل حدث إقليمي إلى مرآة داخلية، والجلسة الأخيرة لم تكن حول السويداء بل حول سلاح حزب الله والمبعوث الأمريكي والوجود الإسرائيلي، أي كل المسائل باستثناء سوريا؛ إنه نوع من “الجغرافيا العكسية”، حيث يصبح ما يجري في السويداء مجرد ذريعة لإعادة تدوير التوترات اللبنانية المزمنة.
هذا التناحر يعكس معادلة بين “الدولة” و”الواقع”، حيث تبدو الدولة اللبنانية مرة أخرى مجرد واجهة مؤسساتية لما هو في الواقع توازنات خوف طائفي، فالتحذيرات من تدويل الأزمة، يقابلها طلب ضمني لتدخلات انتقائية حين يخدم ذلك موقع الطائفة أو الجهة السياسية.

الشارع: الجغرافيا الرمزية في عاليه
في جبل صوفر، قطع الطريق لم يكن عنفا بل رسالة، ولا أحد يريد حربا جديدة، ولكن الجميع يريد أن يُسمَع صوته، فالاحتجاج الرمزي، المدعوم بهدوء من الجيش اللبناني، يعكس ما يمكن تسميته بـ”الهوية الجغرافية الصامتة”، فذلك التوتر الكامن بين التضامن الطائفي والولاء الوطني يوضح أن لا أحد ينتمي فقط إلى الدولة، والجميع ينتمي أيضا إلى “ما وراء الحدود”.
هذا النوع من التحرك الشعبي، وإن بدا عفويا يعبر عن بنية جغرافية اجتماعية عميقة تمتد عبر الحدود الوطنية المصطنعة، فالطرق ليست فقط مسارات مواصلات بل خطوط توتر، والقرى ليست مجرد تجمعات سكنية بل عقد هوية.
عندما تُقطع الطريق في صوفر، لا يُغلق ممر فحسب، بل تُفتح نافذة على خريطة شعورية تربط دروز الجبل بدروز السويداء، وتربط ما هو محلّي بما هو خارجي، وما يظهر كاحتجاج رمزي هو في الحقيقة شكل من أشكال الجغرافيا السياسية الصامتة، حيث التعبير الطائفي يسبق البيان السياسي، وحيث الحدود لا تُرسم على الخرائط فقط، بل تُعاد رسمها في العقول والذاكرة والشارع.
المسافة بين الخوف والذاكرة
ما يفعله اللبنانيون اليوم تجاه السويداء هو الانجرار إلى صراعات الجوار ليس بسبب قرارات عقلانية، بل بسبب علاقات الهوية والتاريخ والجغرافيا، والردود اللبنانية ليست موحدة، ولا حتى متماسكة، لكنها تعبّر بدقة عن بلد متشابك الهويات، متشظي الولاءات، ومحبوس في حدوده دون أن يسكنها بالكامل.
في النهاية، السويداء ليست مجرد خبر إقليمي، بل اختبار للحياد اللبناني، اختبار للهوية، وللقدرة على إبقاء الحدود حدودا لا جسورا إلى الجحيم.