السويداء بين القصف والتفاوض: إعادة رسم شرعية جنوب الشام

في جنوب سوريا تتقاطع خطوط القوة والسيادة والدعاية، ومنذ 8 كانون الأول 2024، لم تكن اعتداءات “إسرائيل” مجرد هجمات عسكرية، بل كانت رسائل أيديولوجية، تصف سلوك دمشق تجاه الأقلّيات بـ”القمع”، وتقدّم نفسها كــ”حامية” للأقليات، وتفاوض تحت القصف، وتبني نفوذها فوق هشاشة الدولة.

أيديولوجيا دمشق: الأقليات كخصوم يستدعون القمع

الدولة السورية بعد انتهاء سلطة البعث تبنّت عقيدة المركزية–الطائفية، معتبرة الأقليات، خطرا جوهريا على “وحدتها الأمنية، فمن منظور دمشق، “الطائفة تهديدٌ يجب ضبطه أو سحقه”، فهذا الإطار الأيديولوجي التزم به الجيش الجديد والأجهزة الأمنية، وانهار معه إحساس المبادرة بالحوار (المدني أو الطائفي)، لتحلّ محله عقيدة “القصف أولاً، الحوار لاحقا”.

هذه العقلية أنتجت واقعا دمويا في ما عزّز خطاب الدولة بأن الأزمة الأمنية تُدار بقوة السلاح لا بالتسويات، لكن الأخطر من ذلك أن هذا المنطق خلق فراغا ميدانيا وأمنيا مفتوحا على التعدي الخارجي وهو ما استثمرته “إسرائيل” مباشرة.

بحسب رويترز ووكالات عالمية، تدخل الجيش السوري إلى الجنوب ثبت أنه غالبا ما يميل إلى دعم عشائر البدو، مما زاد من توتر مناطق جبل العرب ودفع لظاهرة “الحماية الدولية” التأييد الخارجي ضدها، ومع أن حكومة أحمد الشرع أعلنت هدنة، إلا أنها اتُهمت بعدم الحياد أو الفاعلية في مناصرة الدروز خلال الاشتباكات.

هذا الفشل الأمني والرمزي في حماية المواطنين من مكوّنات أساسية داخل الدولة، جعل الأرض تُصبح حقلا مفتوحا للقصف والتدخلات، وأتاح لتل أبيب استخدام “حماية الأقليات” كذريعة شرعية لنفوذها العسكري فوق الدولة السورية المنهارة.

فراغ السلطة: إنشاء الفرصة للمحتل

في المقابل، صاغت “إسرائيل” هذا الفراغ إلى فرصة استراتيجية لا مجرد مصلحة مؤقتة، فعندما تصبح الدولة السورية عاجزة تتحرك إسرائيل لتملأ الفراغ، مستخدمة أيديولوجيا “حماية الأقليات” كغطاء مؤسس لنفوذها، ففي15  تموز 2025، نفذت غارات جوية استهدفت دبابات حكومية قرب السويداء، معلنة أنها جاءت لحماية المكون الدرزي، وأكدت أنها “لن تسمح بإيذاء الدروز”.

لم تكن هذه الخطوة مجرد فعل عسكري؛ بل إعلان أيديولوجي واضح بأن “إسرائيل” فوق الدولة السورية، وتعرف متى وكيف تتدخل، وتختار التنظيم الذي تدعمه على الأرض، وتفرض بذلك معاييرها الأمنية والسياسية عبر القوة الجوية وتعبئة خطاب “الحماية””.

تحليلات مثل تلك في Atlantic Council  تحذر من أن هذه الأيديولوجيا “الإسرائيلية” المتمثلة في دعمها للأقليات تُعمّق الانقسامات الطائفية، وتُضعف دور أهالي جبل العرب داخل سوريا، وتوسع نفوذ تل أبيب داخليا، ما يخلق واقعا أكثر هشاشة وتعقيدا، فالغارة ليست مجرد قصف، بل خطاب قوة يرتكز على إعادة هندسة السلطة، فهي الحامي، والفاعل الذي يُحدد الجغرافيا السياسية لما بعد الدولة.

“إسرائيل” حين تضرب لا تحمي؛ إنها تتحدث وتُعلن وجودها وتعيد بناء قواعد اللعبة، والقوة هنا تُمارَس بصيغتين: بطائراتها فوق الدولة، وبخطابها عن حماية الأقليات، وهو خطاب يلتف حول الدولة، ويغلفه بطبقة أيديولوجية جديدة من “الشرعية المدعومة بالصدمة”.

مفارقة التفاوض تحت القصف

الدولة السورية – بوصفها سلطة هامشية – فقدت القدرة على الفعل المؤثر، خصوصا في الجنوب، حيث انسحبت قواتها وسط حرائق طائفية أمام ضربات إسرائيلية متكررة، وفي15  يوليو 2025، شنت “إسرائيل” غارات دقيقة استهدفت دبابات حكومية تدخلت في المواجهات الطائفية قرب السويداء، معلنة أنها جاءت لحماية الدروز، ورغم هذه الضربات، كشفت معلومات من Reuters  وJPost  عن قنوات خلفية للتفاوض بين دمشق وتل أبيب، تدور حول ترتيبات أمنية لخفض التصعيد عند الجولان وجنوب البلاد.

هنا تكمن المفارقة:

  • دمشق تجري تفاوضا تحت القصف، وتبحث عن “سقف أدنى” من الاستقرار؛ أي هدنة مؤقتة أو تخفيف ضربات جوية بدلا من استعادة سيادتها على الأرض، وضمان حماية مواطنيها بالكامل.
  • تل أبيب، بالمقابل، تمارس أيديولوجيا “الحماية المطلقة”، وتفرض شروطها على خط التفاوض: عدم استهداف الدروز، واحتكار الأجواء لتفادي أي استعادة لسيادة الدولة.

“المفاوضات الرمزية” تحت القصف تتحول إلى آلية لتثبيت واقع ما بعد الدولة؛ فالقوة تفرض سيطرتها أولا، وتترك حرية التحاور والرد السياسي أو القانوني لتكون “لاحقة” وليس مرافقة للقرار، والدولة السورية التي تواجه غارات “إسرائيلية” تُنفّذ بحجة “حماية الدروز”، تتفاوض فقط على تخفيف الضربات ووقف مؤقت للنار أي على حد أدنى من الحماية، ولا تُطالب باستعادة سيادتها أو السيطرة الكاملة على الأرض.

الدولة المُهدّمة تفاوض للخروج من تحت وقع القصف، بينما القائمون على أمر الضربات، أي “إسرائيل”، يُعيدون بأنفسهم كتابة واقع سيادة الدولة من الأعلى.

جرمانا وصحنايا: تحذيرات إسرائيلية بحجة الحماية

بين 28 شباط و 2 آذار، اندلعت اشتباكات في جرمانا، فأرسلت دمشق قواتها، ثم تلقّت إنذارا “إسرائيليا” بأن “لا تلمس الدروز”، وهذا الأمر تحوّلا في الأدوار، فـ”إسرائيل” تلعب دور الوصي على الأقليات، فيما دمشق تصبح “قوة غازية”

ما بين 13–15 تموز، تكرّس الصدام على شكل قصف مباشر للدبابات الحكومية من قبل طائرات إسرائيلية في محيط السويداء، و”إسرائيل” عبرت عن أيديولوجيا بوضوح؛ إذا كانت الدولة تفكر بتهجير أو سحق الأقليات، فلن تسمح بذلك، وجاء الرد السوري عبر “هدنة محلية” وليس عبر سيطرة مركزية، وأعقبها صمت حكومي كعلامة ضعف الدولة الرمزية أمام القوة الجوية.

أيديولوجيا “إسرائيل”: القوة والضم

تل أبيب لم تؤمن بالقصف فقط كوسيلة عسكرية، بل كأداة أيديولوجية، تُخبر العالم، بأنها الحامي، وأنها من يملك الحق في حماية من يريد النظام تهميشهم، فالرغبة في حماية الدروز ليست حالة إنسانية فقط، بل دفعة تأسيسية لـ”حزام نفوذ” داخل الأراضي السورية، وهذا يتطلب مكانة أيديولوجية فوق الدولة، حيث يصبح القصف أيضا خطاب متجاوز للسيادة.

أما دمشق، فتمارس الازدواجية حيث ترى نفسها الدولة الشرعية، لكنها تكتفي بقصف ضعيف، وتحوّل السيادة إلى “كلمات على الورق”، وتُفاوض، وتطلب علاقات، لكنها عاجزة عن تقديم حماية لمكوّناتها، وهذه الأيديولوجيا تفتقد إلى “الفعل السيادي”، وتعيش تحت رحمة أيديولوجيا “إسرائيل” الصارخة والحازمة.

في هذه المساحة السورية، لا تُكتب القوانين بالدستور، بل بقوة النار، فـ”إسرائيل” أصبحت فاعلا فوق – دولي؛ يملك الحق في القصف والتفاوض، ويصوغ “شرعيته” من تحطيم أيديولوجيا الدولة السورية، بينما تراجعت دمشق إلى بقايا رمزية، وما نراه ليس توترا عابرا، فالسياق الجيوسياسي هنا ليس تحوّلا في السياسة فقط، بل في الأيديولوجيا، حيث يجتمع القصف مع الخطاب، وتتحول القوة الجوية إلى سلطة، والأسرة الدولية إلى شاهد عاجز.

من يملك القدرة أن يقول “أنا الحامي” يصبح هو صاحب السيادة الجديدة، بصرف النظر عن خطوط الحدود، وهذا ما تُجسّده “إسرائيل” في الجنوب السوري، فحين تقصف وتهدّد ثم تفاوض، وتسمي هذا كله “أيديولوجيا الحماية” فإن أي سيادة وطنية تصبح بلا معنى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *