تبدو سوريا اليوم وكأنها تقف على تخوم مرحلة جديدة من صراع لم يتوقف يوما، لكنّه يتبدّل في ملامحه ورموزه أكثر مما يتغير في جوهره.
ففي يوم واحد فقط، تداخلت في المشهد السوري إشارات التصعيد العسكري مع محاولات إعادة هندسة الذاكرة الوطنية، بينما بدت السلطة المركزية في دمشق عازمة على تثبيت شرعية رمزية في مواجهة واقع ميداني يتآكل عند أطراف البلاد.
شمال البلاد… تصعيد يلامس حافة الحرب
المعارك التي اندلعت شرق حلب بين قوات الحكومة و”قسد” لا تبدو مجرد اشتباكات عابرة على خطوط تماس، بل تمثّل وفق المؤشرات تحولا في قواعد الاشتباك بين الطرفين.
القصف بالطائرات المسيّرة والإغلاق الكامل للطرق بين مناطق سيطرة الطرفين في حلب والرقة ودير الزور، يشير إلى نزوع حكومي نحو إعادة فرض السيطرة بالقوة، في مقابل خطاب كردي يؤكد أن دمشق “تسعى إلى زعزعة الاستقرار”.
لكن هذا التصعيد، في عمقه، يعكس أكثر من خلاف ميداني؛ إنه صراع على الشرعية السياسية والاقتصادية في ظل دولة لم تعد قادرة على احتكار القوة أو القرار، حيث تواصل “قسد” إدارة مساحات شاسعة من شمال وشرق البلاد ضمن شبه كيان ذي طابع مؤسساتي واقتصادي مستقل.
أنقرة تدخل على الخط… ورسائل متعددة الاتجاهات
في هذا السياق، جاءت تصريحات وزير الخارجية التركي هاكان فيدان لتعيد التذكير بأن الملف السوري لا يُدار سوريا بالكامل.
تحذيره من أيّ “أمر واقع يهدد وحدة الأراضي السورية” بدا موجها إلى “قسد” أولا، لكنه تضمن أيضا إشارة ضمنية إلى قلق تركي من تثبيت سلطة الأمر الواقع الجديدة في دمشق، التي لم تُخفِ برودها تجاه أنقرة منذ انتقال الحكم إلى الرئيس أحمد الشرع.
ولعل إشارته إلى ضرورة “حلّ قضية الدروز في الجنوب بطريقة تحفظ وحدة البلاد” تعكس محاولة تركية لإعادة تموضع سياسي عبر البوابة الإنسانية والاجتماعية، بعدما انحسر حضورها العسكري المباشر.
الجنوب… مرآة الغضب الاجتماعي
في الجنوب، بدت السويداء مجددا مركزا لاحتقانٍ يتجاوز الاقتصادي إلى السياسي، بعد توقف الأفران لليوم الثالث بسبب منع دخول الطحين، ما عُدّ حصارا اقتصاديا مقنّعا.
تزامن ذلك مع بدء لجنة التحقيق الدولية جلساتها حول مجازر المحافظة، في خطوة تُظهر حجم الانكشاف الدولي للنظام الجديد.
أما في درعا، فإن الاشتباكات بين الأمن العام ومسلحين محليين في مدينة جاسم أكدت استمرار هشاشة الوضع الأمني، حيث تتقاطع سلطة الدولة مع قوى محلية تفرض حضورها بقوة السلاح.
بهذا المعنى، الجنوب اليوم ليس مجرد ساحة اضطراب، بل منطقة اختبار لمدى قدرة السلطة في دمشق على استعادة هيبة الدولة دون العودة إلى أدوات القمع القديمة.
الانتخابات التشريعية… شرعية على الورق وانقسام في الواقع
جرت في دمشق هذا أمس انتخابات تشريعية وُصفت من قبل معارضين بأنها شكلية وغير تمثيلية، في ظل مقاطعة واسعة في الشمال الشرقي ومناطق الجنوب.
الانتخابات، التي جاءت بعد أقل من عام على صعود الرئيس أحمد الشرع الانتقالي إلى السلطة، بدت أقرب إلى محاولة ترسيخ شكل مؤسساتي لنظام لم يستقر بعد.
في المقابل، رأت قوى معارضة داخل البلاد وخارجها أن العملية “تفتقر إلى قانون ديمقراطي وتُميّز بين السوريين”، كما جاء على لسان بدران جيا كرد، نائب الرئاسة المشتركة في الإدارة الذاتية، الذي أكد أن “المجلس المنتخب لا يمثل إرادة السوريين”.
أما في الجنوب، فأعلن “تيار وطن الديمقراطي” رفضه لما وصفه بـ”المسرحيات الانتخابية”، في بيان عكس عمق الفجوة بين السلطة المركزية ومجتمعات الأطراف.
عملياً، أعادت الانتخابات إنتاج المشهد السوري في صورته الأكثر وضوحا؛ دولة موحّدة على الورق، مجزّأة على الأرض، ومقسومة في الشرعية بين سلطة مهيمنة وكيانات متمردة.
قرارات رمزية… أم إعادة تعريف للهوية؟
في دمشق، أحدث المرسوم الرئاسي رقم (188) صدمة رمزية بعد أن أسقط يومي “عيد الشهداء” و”حرب تشرين” وعيد المعلم من الأعياد الوطنية.
القرار، الذي بررته الرئاسة بإعادة تنظيم “العطل الرسمية”، يبدو في جوهره محاولة لتشكيل سردية وطنية جديدة تتجاوز ذاكرة الدولة السابقة وتؤسس لشرعية رمزية بديلة.
لكنّ توقيت القرار في لحظة اشتعال الجبهات وتراجع الوضع المعيشي أثار تساؤلات حول أولويات السلطة، التي بدت أكثر انشغالا بـ”إعادة كتابة التاريخ” من معالجة الحاضر.
وبينما وصف المستشار الرئاسي أحمد موفق زيدان الرئيس الشرع بأنه “قائد جهادي اقتلع النظام السابق”، فإن الخطاب الرسمي يبدو أقرب إلى تبني لغة الثورة الدائمة، لا الاستقرار المؤسسي.
الاقتصاد… خلفية الانهيار المتواصل
في موازاة هذا المشهد، واصلت الليرة السورية انهيارها لتبلغ 11,600 مقابل الدولار، وسط موجة غلاء غير مسبوقة.
ومع ارتفاع معدل الجريمة وتزايد القتل الطائفي وفق تقارير المرصد السوري، يتبدّى أن العنف الاجتماعي بات الوجه الآخر لانهيار الدولة، حيث تتراجع سلطة القانون وتتصاعد العصبيات المحلية والطائفية.
تقدّم أحداث الخامس من تشرين الأول صورة مكثفة عن الدولة السورية الجديدة؛ سلطة مركزية تسعى إلى تثبيت رمزية جديدة عبر الخطاب والمرسوم، في وقتٍ تفقد فيه السيطرة على الأطراف.
شمال يشتعل بنيران الحرب، وجنوب يغلي بالاحتقان، ووسط اقتصادي يتهاوى، فيما تحيط الإشارات التركية والإسرائيلية بالمشهد كدائرة ضغط مستمرة.
