عشرة أشهر بعد السقوط والأرقام تروي ما هو أبشع من الحرب
بعد عقد ونصف من الصراع غرقت سوريا في عهد السلطة الحالية في فوضىٍ أمنية واقتصادية غير مسبوقة، فلم تعد البلاد تعيش على أطلال حرب انتهت، بل في ظل نظام يعيد إنتاج الخوف بأشكال متعددة، حيث تحوّل العنف إلى أداة حكم، والفساد إلى رافعة للبقاء.
كان السوريون ينتظرون لحظة انفراج، فإذا بهم أمام سلطة تتعامل مع الأزمات كفرص لتكريس السيطرة لا لتفكيكها.
لم تولد دولة جديدة بعد الحرب، بل نشأت سلطة أكثر قسوة، وأقل يقينا، تُدير البلاد بمنطقٍ أمني صرف، وتُبقي المجتمع معلقاً بين الجوع والترهيب
بين كانون الأول 2024 وتشرين الأول 2025، تم توثيق مقتل 10 955 شخصا في عموم البلاد، وهو رقم تقريبي، بينهم 8422 مدنيا، من ضمنهم 463 طفلا و636 سيدة، والأقسى أن 3054 من هؤلاء قُتلوا في إعدامات ميدانية، أي خارج أي إطار قانوني أو عسكري منظم.
تبدو هذه الأرقام كأنها نشرة طقس للدم، تتكرر فيها موجات القتل وفق إيقاع شبه موسمي؛ موجة أولى في نهاية 2024، ثانية عاتية في آذار 2025، وثالثة في تموز 2025، وهذا التواتر الموجي وفق تحليل السلاسل الزمنية (Time Series Analysis)، لا يعكس صدفة إحصائية بقدر ما يكشف نمطا منتظما في دورة الفوضى السورية الجديدة.
قراءة في السلسلة الزمنية – كيف تحوّلت سوريا إلى مختبر للعنف؟
بتحليل بيانات المرصد، يظهر أنّ معدّل القتل الشهري في سوريا بلغ995 ضحية تقريبا، لكن هذا المتوسط يُخفي خلفه تذبذبات حادة؛ من ذروة بلغت 2644 قتيلا في آذار إلى قاع بلغ315 فقط في أيلول، وتتطابق هذه الموجات مع أحداث مفصلية:
- آذار 2025 مجازر الساحل التي استهدفت المكوّن العلوي.
- تموز 2025 اشتعال السويداء وريف دمشق الدرزي في صراعات مناطقية.
- كانون الأول 2024 فترة فراغ السلطة بعد الانهيار الفوري لمؤسسات النظام.
يظهر المنحنى الزمني وكأنه نبض غير مستقر لجسد يحتضر ثم ينتعش بالعنف، وإذا استخدمنا نموذج SARIMA في التنبؤ(Seasonal Autoregressive Integrated Moving Average)، فالمؤشرات تُظهر أنّ العنف السوري يتكرر كل3–4 أشهر على شكل دورة انتقامية تالية لانهيار أمني أو اغتيال رمزي.
جغرافيا الدم – من الساحل إلى السويداء
توزيع الخسائر البشرية يؤشر بانتقال مركز الثقل الأمني السوري من العنف الموجَّه من الدولة إلى العنف المتبادل بين المكونات المحلية.
- في الساحل السوري، كانت المجازر ذات طابع انتقامي وطائفي، إذ استهدفت العلويين في آذار 2025 في واحدة من أبشع موجات العنف بعد سقوط النظام.
- في السويداء، اندلعت معارك بين فصائل درزية ومسلحين محليين، خلّفت مئات الضحايا وتهجيرا واسعا.
- شهد ريف دمشق، ولا سيما بلدتا صحنايا وأشرفية صحنايا، خلال عام 2025 اشتباكات متقطّعة ذات خلفية طائفية بين مجموعات محلية مسلّحة من أبناء الطائفة الدرزية من جهة، وقوات أمنية تابعة لوزارتي الدفاع والداخلية من جهة أخرى، ما أدى إلى سقوط عدد من القتلى والجرحى.
لم تكن هذه الأحداث واسعة النطاق، لكنها كشفت عن هشاشة الوضع الأمني في محيط العاصمة، وتزايد حدّة التوترات الاجتماعية والمذهبية في مناطق كانت تُعدّ مستقرة نسبياً.
أما مدينة حمص، فرُصدت فيها خلال الفترة ذاتها حوادث أمنية متفرقة شملت عمليات اغتيال وعمليات تصفية فردية، بعضها طاول مدنيين وعسكريين سابقين، من دون أن تُحدّد الجهات المنفّذة بوضوح.
تُظهر هذه التطورات الميدانية أنّ أنماط العنف في سوريا لم تعد مقتصرة على الصراع التقليدي بين السلطة والمجتمع (State-to-Citizen Violence)، بل اتخذت شكلا أكثر تشابكا داخل النسيج الاجتماعي نفسه، حيث تتزايد حالات الانتقام المحلي والاشتباكات بين جماعات متجاورة.
وبحسب البيانات فإن 1773 شخصاً قُتلوا في ظروف وُصفت بـ”المجهولة”، وهو توصيف فضفاض يغطي على مروحة واسعة من الاغتيالات، والتصفيات الفردية، وأعمال العنف غير المنسوبة إلى جهة محددة.
العوامل المحرّكة – عندما يلتقي الانهيار السياسي مع الكراهية الرقمية
تُظهر البيانات أنّ العوامل الأمنية والعسكرية (قصف، تفجيرات، إعدامات ميدانية) تمثّل 60% من مجمل الوفيات، فيما العوامل الاجتماعية والسياسية تمثل الوقود المستمر لها.
الانقسام الطائفي المتفاقم – بين علويين ودروز وسنة وأكراد – أصبح محرّكا مركزيا، لكن المدهش أنّ التحريض لم يعد ينتشر في المساجد أو عبر الميليشيات، بل في فضاءات التواصل الاجتماعي، ويمكن ربط موجات العنف الميداني بموجات “التحريض الإلكتروني” قبلها بأسابيع، فهي مؤشر لإنذار مبكر حول احتمال ظهور موجة جديدة (Early Warning Indicator).
ساهمت حملات التضليل الإعلامي المنظمة في خلق بيئة من “البارانويا الطائفية”، إذ تُستخدم روايات متناقضة لتأجيج الكراهية وإسكات الأصوات الحقوقية، هذه الدينامية تشبه ما جري في أفغانستان بعد انسحاب الناتو؛ التحلل البطيء لمجتمع أنهكته الحروب، وتركته بلا بوصلة أخلاقية أو مركز سلطة مشروع.
نموذج التنبؤ – بين السكون والانفجار
بناءً على تحليل السلسلة الزمنية للضحايا (كانون الثاني 2024 – تشرين الأول 2025)، يمكن تصميم نموذج تنبؤ عددي بسيط، يعتمد على المتوسط المتحرك وتذبذب الانحراف المعياري.
النتائج الاحتمالية لستة أشهر مقبلة (حتى أبريل 2026):
| السيناريو | الافتراضات | عدد القتلى المتوقع |
| تصاعدي كارثي | فشل السلطة الانتقالية، صدامات طائفية جديدة، تدخل خارجي مباشر | 10 500 – 13 000 |
| استمرار الوضع الراهن | العنف يستمر بوتيرته الحالية دون توسع أو انحسار | 6 000 – 8 500 |
| انفراج نسبي | تفاهمات محلية ومحدودة، بداية مسار عدالة انتقالية | 3 000 – 4 500 |
وبناءً على معامل التباين (Coefficient of Variation ≈ 0.78، وهو مرتفع جدا، فإنّ احتمال العودة إلى سيناريو الكارثة (الأول) يظل قائما بنسبة تقارب 40%، بينما احتمال التراجع نحو الانفراج لا يتجاوز 20% والسيناريو الأكثر ترجيحا وفق النماذج الإحصائية هو السيناريو الثاني، أي استمرار العنف دون انفجار شامل أو تهدئة حقيقية.
مؤشرات الإنذار المبكر – كيف يمكن توقّع موجة العنف المقبلة؟
- مؤشرات ميدانية:
- زيادة الاغتيالات في الساحل والجنوب.
- تغيّر خطوط السيطرة في اللاذقية والسويداء.
- ظهور تشكيلات مسلحة جديدة تحت أسماء مناطقية أو دينية.
- مؤشرات اجتماعية:
- تفاقم الانهيار المعيشي وغياب الخدمات.
- ارتفاع معدلات النزوح الداخلي من الريف إلى المدن الساحلية.
- مؤشرات إعلامية:
- تصاعد الخطاب الطائفي على المنصات الرقمية.
- تزايد حملات التشويه ضد المنظمات الحقوقية.
- مؤشرات خارجية:
- تكثيف الغارات الإسرائيلية والتركية.
- نشاط استخباراتي ميداني إيراني أو روسي في الساحل والبادية.
استناداً إلى تجارب مشابهة في العراق وليبيا، فإن تراكم هذه المؤشرات يسبق عادة موجة عنف جديدة خلال 8–12 أسبوعا، أي أن الفترة بين يناير ومارس 2026 ستكون حرجة للغاية.
البعد الطائفي كمعضلة أمنية
البيانات لا تكذب؛ أكثر من 70% من الإعدامات الميدانية كانت “على الهوية”، وتركزت في مناطق محددة، ما يعني أن النزاع السوري انتقل من بعده السياسي إلى صراع هويات قاتلة، والمحلل الأمني بيتر بيرغن الذي حلّل تحولات “داعش” بعد سقوط الموصل، يرى أن أخطر ما يواجه دولة هو “خصخصة العنف” حين تتحول الطائفة أو العشيرة إلى جيش، والدين إلى ترخيص للقتل.
وهذا ما يجري في سوريا اليوم؛ في الجنوب، تتقدّم الفصائل الدرزية المحلية لتملأ الفراغ الأمني، في مواجهة تشكيلات عشائرية مسلّحة مدعومة من قوات السلطة في دمشق، ضمن صراع يتجاوز البعد المذهبي إلى صراع نفوذ وولاءات.
وفي الشمال، لا وجود لتشكيلات “علوية” كما يُشاع، بل تنتشر فصائل متطرفة جاءت من إدلب بعد سقوط النظام، وتتنافس مع قوى محلية كردية وعربية على السيطرة والنفوذ، والنتيجة واحدة رغم التنوّع الجغرافي؛ البلد مجزّأ تُدار مناطقه بالسلاح، والخوف هو العملة السياسية الوحيدة المتبقية.
العدالة المؤجلة – طريق سوريا إلى السلام يمر عبر المحاكم لا البنادق
أحد العوامل الأكثر رسوخاً في استمرار دوامة العنف في سوريا اليوم هو الإفلات الممنهج من العقاب في ظل السلطة الحالية، فالنظام الأمني الجديد، الذي تشكّل بعد إعادة هيكلة مؤسسات الدولة، لم يُظهر أي التزام فعلي بالمحاسبة أو بسيادة القانون، بل اعتمد سياسة “التسويات الانتقائية” التي مكّنت المتورطين في انتهاكات جسيمة من الحفاظ على مواقعهم أو إعادة تدوير نفوذهم ضمن الأجهزة الجديدة.
لم تُفتح السجون أمام لجان تحقيق مستقلة، ولم يُقدَّم أي مسؤول أمني أو عسكري للمحاكمة، فيما تستمر حالات الاحتجاز التعسفي والتعذيب في مراكز الاعتقال التابعة للسلطة ذاتها التي تزعم تمثيل “النظام الجديد”.
هذا الفراغ القضائي المتعمّد جعل من الانتقام الشخصي والقوة المسلحة بدائل عن العدالة، وحوّل فكرة المساءلة إلى تهديد سياسي أكثر من كونها التزاماً قانونيا.
ووفق المنهج التحليلي الذي طوّره “بيرغن” في دراساته حول ما بعد النزاعات، فإن غياب العدالة يعيد إنتاج العنف بنسبة تتجاوز 40%، لأن المجتمعات التي تُحرم من الإنصاف تسعى لتعويضه بوسائل القوة.
بات الإفلات من العقاب ليس مجرد عرض جانبي للأزمة السورية، بل جوهر السلطة الجديدة وآلية بقائها، فأكثر من 60 رجلا قُتلوا تحت التعذيب في سجون إدارة العمليات العسكرية الجديدة، واثنان في سجون فصائل الجيش الوطني، وحالة واحدة في سجون “قسد”، هذه الأرقام الصغيرة لا تعني تحسنا، بل استمرار “النسق ذاته” من القمع في غياب نظام قضائي فاعل.
التنبؤ النوعي – من الحرب المفتوحة إلى الفوضى المستدامة
من منظور علوم البيانات الأمنية، يمكن تقسيم مستقبل العنف السوري إلى ثلاث مراحل متتابعة:
- المرحلة الحالية (2025 – منتصف 2026):
استمرار الفوضى الجزئية، عنف متفرق، تصفيات واغتيالات. - المرحلة المتوسطة (منتصف 2026–2027):
تشكّل مراكز سلطة مناطقية (ساحل، جنوب، شمال شرقي)، كل منها يفرض نمط حكم محلي. - المرحلة اللاحقة (بعد 2027):
إما انزلاق إلى كونفدرالية أمراء حرب أو بداية تشكّل نظام مركزي ضعيف برعاية دولية.
إذا لم تتدخل آليات المحاسبة الدولية، فإنّ “العنف المستدام” (Sustained Violence Pattern) سيصبح القاعدة الجديدة. سوريا لن تنزف أكثر فحسب، بل ستعتاد على النزف.
ما الذي تُخبرنا به الأرقام حقا؟
ليست الأرقام مجرد جداول، بل شواهد على موت مفهوم الدولة. فـ 10955 جثة في عشرة أشهر ليست حصيلة حرب بل نتاج نظام انهار دون أن يُستبدل بمؤسسات.
في نظر بيرغن، “حين تموت الدولة ولا تُولد العدالة، يتحول الناس إلى مشاريع ميليشيات”، وهذا ما يحدث في سوريا الآن؛ الفقر يغذي الكراهية، الكراهية تُنتج سلاحا، والسلاح يُنتج موتا آخر يُضاف إلى السلسلة الزمنية القادمة.
التحليل الإحصائي لا يحتاج إلى وحي ليدرك أن الدم السوري، وفق منحنى الاتجاه العام، ما زال في صعود بطيء لكنه مستمر. وإذا لم تتغيّر المعادلة السياسية والأخلاقية جذرياً، فإنّ مارس آخر قادم لا محالة، وربما يكون أسوأ.
سوريا بعد السقوط: تحول الفوضى إلى نظام دموي جديد
تحليل إحصائي للعنف في سوريا خلال الفترة من كانون الأول 2024 إلى تشرين الأول 2025
إحصائيات الضحايا
توزيع الضحايا حسب المنطقة
أنماط العنف
السلسلة الزمنية للضحايا والتنبؤ المستقبلي
الموجات الرئيسية للعنف
- كانون الأول 2024: فترة فراغ السلطة بعد الانهيار الفوري لمؤسسات النظام
- آذار 2025: مجازر الساحل التي استهدفت المكوّن العلوي (أكثر من 1700 عملية تصفية)
- تموز 2025: اشتعال السويداء وريف دمشق الدرزي في صراعات مناطقية
مؤشرات الإنذار المبكر لموجات العنف
تفسير المؤشرات
السيناريوهات المستقبلية للعنف في سوريا
فشل السلطة الانتقالية، صدامات طائفية جديدة، تدخل خارجي مباشر
العنف يستمر بوتيرته الحالية دون توسع أو انحسار
تفاهمات محلية ومحدودة، بداية مسار عدالة انتقالية
المراحل المتوقعة للعنف
- المرحلة الحالية (2025 – منتصف 2026): استمرار الفوضى الجزئية، عنف متفرق، تصفيات واغتيالات
- المرحلة المتوسطة (منتصف 2026-2027): تشكّل مراكز سلطة مناطقية (ساحل، جنوب، شمال شرقي)
- المرحلة اللاحقة (بعد 2027): إما انزلاق إلى كونفدرالية أمراء حرب أو بداية تشكّل نظام مركزي ضعيف

