في مساء شتوي من كانون الأول 2024، عندما سقطت دمشق بلا ضجيج تقريبا، كان الشرق الأوسط يُعيد ترتيب خرائطه القديمة دون أن يلتفت أحد.
المدن التي كانت ذات يوم مراكزَ حضارة أصبحت أطلالا تتصارع فوقها الرايات.
وللمرة الأولى منذ قرنٍ كامل، لم تعد سوريا دولة، بل مساحة توازن مفقود.
ذلك الحدث لم يكن مجرد انقلاب عسكري أو انهيار نظام متعب، بل زلزالا جيوسياسيا أزاح محور القوة الذي حكم بلاد الشام منذ الحرب الباردة.
ومثل كل الزلازل الكبرى، لم يُحدث الدمار بقدر ما كشف هشاشة البنيان.
الجغرافيا تنتقم من السياسة
في سوريا، كانت الجغرافيا دائما أقوى من الفكرة.
الجبال التي تحمي الساحل، والبادية التي تفصل المدن عن بعضها، والأنهار التي لا تكفي لريّ الأرض أو توحيدها، كلّها كانت تؤسس لدولة مركزية بالقوة لا بالرضا.
لكن منذ أن عبرت “هيئة تحرير الشام” أبواب دمشق، انتهت تلك الفرضية.
لم تعد الجغرافيا ساحة تدار منها الدولة، بل خريطة موزّعة الولاء والهوية:
دمشق عاصمة بلا معنى وطني، الشمال الغربي يخضع لقوة دينية – عسكرية، الشرق للامركزية الكردية، والجنوب لحسابات العشائر والحدود.
إنها عودة ما قبل سايكس– بيكو، لكن بأدوات القرن الحادي والعشرين.
الهيئة التي كانت تُعرف يوما بتنظيم مسلح منبوذ، صارت اليوم “السلطة الفعلية” في بلد مكسور.
غير أن هذا الانتصار لا يعني استقرارا، بل توحيدا مؤقتا لفراغ السلطة.
تماما كما كتب كيسنجر ذات مرة: “عندما تنهار الشرعية، تبقى القوة وحدها بلا هدف سوى البقاء”.
القوة التي بلا وزن
على الورق، تمتلك الهيئة جيشا وجهاز أمن، حكومة مؤقتة، وأعلاما ترفرف فوق العاصمة.
لكن في الواقع، ما تحكمه ليس دولة، بل موزاييك لمجتمعات محلية ومدن ومصالح متداخلة، تُبقيها معا رهبة الخوف لا نسيج الثقة.
إنها لحظة يشبه فيها الانتصار الهشّ سكون البركان قبل انفجاره:
القوة العارية بلا شرعية مؤسسية، والسيطرة بلا اقتصاد، والعقيدة بلا أفق سياسي.
لهذا، يمكن القول إن سوريا اليوم ليست توازن قوى، بل فراغ قوى تهيمن عليه كتل متنافرة، كما لو أن التاريخ نفسه يتراجع إلى نقطة العدم.
الغرب، الذي راقب انهيار دمشق من بعيد، تعامل مع الحدث كما يتعامل مراقب البورصة مع هبوط مؤقتٍ في الأسواق؛ قلق، لكن بلا رؤية.
لم يدرك أحد أن ما سقط في دمشق لم يكن النظام، بل فكرة “سوريا المستقرة” ذاتها.
حين تنكفئ الإمبراطوريات
تاريخ الشرق الأوسط هو سجلّ تراجع الإمبراطوريات، وسوريا اليوم مرآة هذا التراجع:
- روسيا انسحبت إلى الساحل كما انسحب البريطانيون من عدن قبل نصف قرن، حاملة معها آخر رموز الحلم الإمبراطوري المتوسطي.
- إيران، التي بنت حضورها على فكرة “طريق المقاومة”، وجدت طريقها مقطوعا عند تخوم درعا، وعندها فقط أدركت أن النفوذ لا يساوي السيطرة.
- تركيا، التي حلمت بمنطقة عازلة آمنة، تجد نفسها أمام سلطة دينية لا تخضع لحساباتها ولا لاقتصادها.
- الولايات المتحدة، المرهقة من حروب لا تنتهي، تكتفي بالمراقبة من وراء الفرات، خشية أن يتحول الفراغ الجديد إلى أفغانستان أخرى.
- أما “إسرائيل”، فتنظر إلى الجنوب السوري وتدرك أن “الهدوء” الذي حصلت عليه أثمن مما يبدو، فكل من يسيطر على دمشق ولا يستطيع اكتساب مركزية قوية سينشغل عن الجولان، وهذه مفارقة الشرق منذ ألف عام.
إن اختلال التوازن السوري، من هذه الزاوية، ليس شأنا محليا.
إنه زلزال جيوسياسي يمتد من أنقرة إلى طهران ومن بيروت إلى موسكو، ويقوم بإعادة رسم خرائط النفوذ الإقليمي بأكملها.
الاقتصاد كوجه آخر للهزيمة
من يزور دمشق اليوم، لا يرى عاصمة منتصرة، بل مدينة تُدار بالغريزة لا بالمؤسسات.
العملة القديمة فقدت قيمتها، والاقتصاد الجديد لم يولد بعد.
المعابر بيد الفصائل، والموارد بيد الكُرد، والمصارف خاوية.
كأن البلاد تحيا على ذاكرة اقتصادٍ اندثر، وعلى أمل أن تُعيد التجارة الخارجية ترتيب أنفاسها يوما ما.
لكن في غياب شبكة بنكية، وغياب اعتراف دولي، تصبح كل صفقة مؤقتة، وكل سلطة مؤقتة أيضا.
إنه منطق “اقتصاد البقاء” لا “اقتصاد الدولة” وهذا أخطر أنواع الاقتصاد لأنه يُحوّل الولاء إلى سلعة والسلاح إلى عملة.
في مثل هذا المناخ، يصبح الاستقرار أغلى من الخبز، والخوف بديلاً عن القانون.
البلاد كمتاهة توازنٍ مفقود
ليس في سوريا اليوم قوة تضبط إيقاع التوازن بين المركز والأطراف.
المركز منهك، والأطراف مكتفية بذاتها.
لكن التاريخ يعلّمنا أن الدول لا تموت فجأة، بل تتآكل من الداخل إلى أن تُصبح شكلا بلا مضمون، تماما كما حدث للإمبراطورية العثمانية قبل قرن.
وتمامًا كما كانت بيروت في الثمانينيات مرآة انهيار النظام العربي القديم، أصبحت دمشق في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين مرآة لانهيار مفهوم الدولة في المشرق.
هنا لا تعود القوة ميزانا، بل وزنًا ثقيلا فوق جسدٍ هشّ.
ما بعد التوازن: لحظة التحذير
في الغرف المغلقة لمراكز القرار، يتحدث المسؤولون الغربيون عن “مرحلة ما بعد الأسد” كما لو أنها إنجاز نهائي.
لكن من يعرف تضاريس سوريا يعرف أن التاريخ لا يبدأ ولا ينتهي في القصور، بل في الأرياف والسهول حيث تتناسل القوى المحلية.
إن اختلال التوازن السوري ليس حدثا عابرا، بل علامة على مرحلة أعمق:
مرحلة تنتقل فيها السلطة في الشرق من الدولة إلى الكيان، ومن المركز إلى الأطراف، ومن الشرعية إلى البقاء.
وكلما تجاهلت القوى الكبرى هذا التحول، ازداد خطر أن يتحوّل الفراغ السوري إلى نموذجٍ يُستنسخ في العراق ولبنان وحتى في الأردن.
سوريا لم تعد مشكلة سياسية يمكن التفاوض حولها، بل ظاهرة جيوستراتيجية تتطلب إعادة تعريف لمفهوم الدولة نفسه في المشرق.
حين تنكسر الموازين
في أحد أحياء دمشق القديمة، ما زالت المآذن ترتفع على أصوات الأسواق الخافتة، كما لو أن المدينة ترفض الاعتراف بموتها السياسي.
لكن في عيون سكانها، يمكن قراءة الحقيقة التي لم تُدركها القوى الكبرى بعد:
القوة التي لا تستند إلى مؤسسات ليست سوى وهمٍ مؤقت، وأن النصر الذي لا يُترجم إلى نظامٍ قابلٍ للحياة هو شكل آخر للهزيمة.
انكسر الميزان السوري، لا بانتصار طرفٍ على آخر، بل بانهيار المعادلة التي كانت تضبط الشرق الأوسط برمّته.
ومن بين أنقاض الحدث السوري، يطلّ وجه جديد للمنطقة؛ وجهٌ بلا ملامح ثابتة، ينتظر من يعيد رسمه أو من يتركه يذوب في الرمل.