لا تثير بيانات الأمم المتحدة كثيراً من الدهشة، فهي تكتب بلغة دبلوماسية ترضي الجميع، لكن إحاطة السيدة نجاة رشدي، نائبة المبعوث الخاص إلى سوريا، أمام مجلس الأمن، الصادرة من دمشق ذاتها، بدت مختلفة، فكانت أقرب إلى جردة حساب سياسية – أخلاقية لمرحلة سورية مفصلية، تقف بين “التحول” الموعود و”الواقع” المرهق بالخيبات.
رشدي لم تكتفِ بوصف المشهد، بل وضعت إصبعها على جوهر المعضلة، موضحة أن الانتقال السوري ما زال هشا، ويمكن أن يتحول من وعد إلى وهم.
المرأة السورية: من الرمز إلى الغائب عن القرار
بدأت رشدي خطابها بمرجع رمزي لافت عن مرور خمسة وعشرين عاما على قرار مجلس الأمن 1325 بشأن المرأة والسلام والأمن، وكان ذلك أكثر من استحضار بروتوكولي؛ رسالة ضمنية تقول إن المرأة التي دفعت ثمن الحرب، لم تُعطَ بعد نصيبها من السلام.
تقول رشدي إن ست نساء فقط فزن من أصل 119 مقعدا في مجلس الشعب الانتقالي، ونسبة النساء في لجان الانتخابات والإدارة والمترشحين بقيت هامشية، وبل كشفت عن جوهر المشكلة، فـ”العملية الانتقالية لم تفِ بتوقعات النساء، ولا بالوعود التي أُطلقت لهن”.
تختصر تلك الجملة “الفجوة الأخلاقية” في الواقع السوري الجديد حيث لا يمكن بناء نظام ديمقراطي دون نصف المجتمع، والنساء، كما قالت رشدي، “هنّ أعظم ثروة تملكها سوريا”، لكن يُنظر إليهن كعنصر تجميلي في صورة السياسة لا كفاعل في مضمونها.
ديمقراطية مؤجلة: انتخابات انتقالية بنكهة قديمة
الانتخابات التي جرت في الخامس من تشرين الأول كانت اختبارا أوليا لفكرة “التحول”، لكنها، بحسب إحاطة الأمم المتحدة، جاءت أقرب إلى محاكاة شكلية للديمقراطية، فكانت هادئة، ومنظمة، ولكنها غير شاملة ولا شفافة بما يكفي، فلا مشاركة حقيقية للمجتمع المدني، ولا وقت كافٍ للنقاش العام، ولا وضوح في الإجراءات القانونية.
الأكثر دلالة هو تمثيل المكونات الطائفية والعرقية، فهناك نائب مسيحي واحد، وثلاثة إسماعيليين، ثلاثة علويين، أربعة أكراد، وغاب المكون الدرزي، وهذه الأرقام لا تعبّر عن توازن وطني، بل عن استمرار عجز الدولة السورية عن تمثيل تعددها البنيوي.
سوريا تمارس ديمقراطية انتخابية بلا ليبرالية سياسية؛ حيث الصندوق موجود، لكن روح العقد الاجتماعي غائبة.
بين العقوبات والاقتصاد السياسي للانتقال
حين انتقلت رشدي إلى الجانب الاقتصادي، تحولت لغتها من الدبلوماسية إلى التحذير الصريح، فـ”لكي ينجح الانتقال، يجب رفع العقوبات على نحو أوسع وأسرع”، وهذا تصريح غير مألوف في أدبيات الأمم المتحدة، لأنه يمس مباشرة جوهر السياسة الغربية تجاه دمشق، فالموقف الدولي ظل يراهن على أن الضغط الاقتصادي سيُفضي إلى إصلاح سياسي، بينما ترى رشدي أن الضغط يخنق التحول ذاته.
في رأيها، العقوبات لم تعد أداة لتغيير السلوك، بل عقبة أمام أي تحول بنيوي، لأن الدولة الانتقالية لا تستطيع جذب الاستثمارات ولا تحريك عجلة الإعمار وهي محاصرة ماليا وتقنيا.
لكن رشدي لا تبرئ الداخل، فهي تشترط “بيئة مواتية للاستثمار” عبر أي إصلاحات قانونية ومؤسساتية تُعيد الثقة للمستثمرين، فلا يكفي رفع القيود من الخارج، بل يجب تفكيك الفساد من الداخل.
هذا التوازن في الطرح عبر تحميل المسؤولية للطرفين هو ما يميّز خطاب رشدي عن الموقف السياسي المعتاد، فلا تتحدث عن “نظام” أو “معارضة”، بل عن دولة تحتاج إلى عقد اجتماعي جديد.
العدالة المؤجلة والذاكرة المثقوبة
تُذكّر رشدي في إحاطتها بأن العدالة الانتقالية لا تزال ملفا غامضا، فهناك لجان شكلية للتحقيق في الانتهاكات، ومسارات بطيئة لكشف مصير المفقودين، وغياب واضح للشفافية في نشر النتائج، وهذا الأمر حسب تصريحها ليس مسألة قانونية فحسب، بل شرط وجودي لنجاح أي مصالحة وطنية.
دون كشف الحقيقة لن يكون هناك سلام، ومن دون مساءلة لن تكون هناك مصالحة، وسوريا التي لم تواجه ماضيها بعد، لا يمكنها أن تبني مستقبلا عادلا، والذاكرة إن لم تُصن، تتحول إلى قنبلة مؤجلة في جسد الأمة.
الشرق المشتعل: السويداء وقلق الكيانات
الفقرة الأكثر حساسية في الإحاطة تتعلق بالجنوب السوري، فالسيدة رشدي لم تُخفِ قلقها من الوضع في السويداء، حيث يتقاطع الاحتجاج الأهلي مع الفراغ الأمني.
رحّبت بالتعاون الأميركي – الأردني – السوري المؤقت لمعالجة الأزمة، لكنها شددت على أن أي تسوية يجب أن تحفظ سيادة سوريا ووحدتها، وأن تطمئن المجتمع في جبل العرب بشأن أمنه وحقوقه السياسية.
لغة رشدي هنا حذرة لكنها كاشفة، فالسويداء ليست مجرد ملف أمني، بل مؤشر على عمق أزمة المواطنة في سوريا، فالطائفة التي طالما عاشت على هامش الصراع، تجد نفسها اليوم في قلب سؤال الهوية الوطنية، فهل تستطيع سوريا ما بعد الحرب أن تكون دولة لكل أبنائها؟
سوريا وإسرائيل: الحديث المحظور يصبح واقعية باردة
أما في الجنوب الأبعد، فتفتح رشدي باباً يغلق عادة في الخطاب الأممي مرتبط بالعلاقات السورية – الإسرائيلية، فطالبت بوقف “الاعتداءات الإسرائيلية” في الجنوب، لكنها أضافت جملة لافتة: “الحوار الجاري بين سوريا وإسرائيل مشجّع، ونأمل أن يفضي إلى نتائج ملموسة”!
عمليا فإن الأمم المتحدة لا تذكر كلمة “حوارا” إلا إن كان هناك قنوات حقيقية قائمة، فثمة تفاوض يجري في الظل، لا بد أن يرتبط بترتيبات أمنية تخص الجنوب السوري وربما الجولان.
هذا التصريح وحده كافٍ لإعادة تعريف خريطة التحالفات في المرحلة المقبلة؛ السلطة في دمشق تتحدث مع واشنطن عبر عمان، ومع تل أبيب عبر موسكو، ومع الأمم المتحدة عبر رشدي، في هذا التعدد من القنوات تكمن حالة جديدة، لكنها تعبر عن خطر تفكك الدولة إلى محاور.
الانتقال الطويل: خمس سنوات نحو المجهول
تقول رشدي إن سوريا ما زالت في “البدايات المبكرة لمرحلة انتقالية تمتد خمس سنوات”، ما يعني في التقديرات السياسي أن جيلا كاملا سيعيش على حافة عدم الاستقرار.
المواطن الذي يعيش على حافة الفقر، لا يقيس التقدم بعدد اللجان أو القرارات، بل بقدرة الدولة على تحسين حياته اليومية، ولهذا شددت رشدي على أن الانتقال لا يمكن أن ينجح إلا عبر شراكة حقيقية بين الدولة والمجتمع، وبين السلطة والأمم المتحدة، وأن الدبلوماسية وحدها لا تبني مؤسسات.
بين الحلم والواقعية السياسية
قراءة إحاطة رشدي تضعنا أمام رؤية خاصة، فهي لا تريد أن تصطدم بالسلطات السورية، لكنها في الوقت نفسه ترفض أن تُختزل الأمم المتحدة في دور المراقب الصامت.
خطابها هو أقرب إلى بيان للواقعية الأخلاقية، فهناك الاعتراف بأن سوريا تحتاج إلى وقت، ولكن أيضا إلى إرادة؛ إلى رفع العقوبات، ورفع الوصاية؛ والأهم إلى مصالحة وطنية عدالة ماتزال غائبة، فالسلام ليس إعلانا سياسيا ولا علاقة عامة تمارسها السلطات في دمشق، بل عقدا اجتماعيا جديداً يُبنى من الداخل.
لن تُكتب نهاية هذا الصراع إلا بأيدي السوريين أنفسهم حين يقررون أن مستقبلهم المشترك أهم من ماضيهم المتنازع عليه.
سوريا بين الوعد والواقع
إحاطة السيدة نجاة رشدي، نائبة المبعوث الخاص إلى سوريا، أمام مجلس الأمن، كانت أقرب إلى جردة حساب سياسية – أخلاقية لمرحلة سورية مفصلية، تقف بين “التحول” الموعود و”الواقع” المرهق بالخيبات.
المرأة السورية: من الرمز إلى الغائب عن القرار
التوزيع الطائفي في الانتخابات
تأثير العقوبات على التحول
النقاط الرئيسية في الإحاطة
المرأة السورية
ست نساء فقط فزن من أصل 119 مقعدا في مجلس الشعب الانتقالي، والعملية الانتقالية لم تفِ بتوقعات النساء.
ديمقراطية مؤجلة
الانتخابات كانت هادئة ومنظمة، ولكنها غير شاملة ولا شفافة بما يكفي، وغاب التوازن في تمثيل المكونات.
العقوبات والاقتصاد
العقوبات لم تعد أداة لتغيير السلوك، بل عقبة أمام أي تحول بنيوي، مع ضرورة إصلاحات داخلية.
العدالة الانتقالية
العدالة الانتقالية لا تزال ملفا غامضا مع لجان شكلية وغياب الشفافية في نشر النتائج.
السويداء والجنوب
قلق من الوضع في السويداء حيث يتقاطع الاحتجاج الأهلي مع الفراغ الأمني.
الحوار مع إسرائيل
ذكرت رشدي أن “الحوار الجاري بين سوريا وإسرائيل مشجّع”، مما يشير إلى قنوات حقيقية قائمة.
الاستنتاج الرئيسي
قراءة إحاطة رشدي تضعنا أمام رؤية خاصة تجمع بين الواقعية والأخلاقية. هناك اعتراف بأن سوريا تحتاج إلى وقت، ولكن أيضا إلى إرادة؛ إلى رفع العقوبات، ورفع الوصاية؛ والأهم إلى مصالحة وطنية عادلة ما تزال غائبة. السلام ليس إعلانا سياسيا، بل عقدا اجتماعيا جديداً يُبنى من الداخل. ولن تُكتب نهاية هذا الصراع إلا بأيدي السوريين أنفسهم حين يقررون أن مستقبلهم المشترك أهم من ماضيهم المتنازع عليه.

