ليس جديدا أن ترفع الحكومة السورية شعار “الإصلاح الإداري”، لكنّ اللافت استخدام الأداة التشريعية عبر مشروع قانون الخدمة المدنية الجديد، الذي يُفترض أن يطوي صفحة قانون العاملين الموحّد رقم 50 لعام 2004.
وراء هذا المسعى الإداري الظاهري، تتشكّل ملامح تحوّل أعمق في فلسفة إدارة الدولة وعلاقتها بجهازها البيروقراطي، فالقانون الجديد لا يبدو مجرّد تعديل تنظيمي، بل محاولة لإعادة رسم حدود السلطة داخل الإدارة العامة تحت لافتة الكفاءة والمساءلة.
وهنا تتبدّى المفارقة، فهل نحن أمام إصلاح بنيوي حقيقي، أم أمام إعادة تموضع سياسي أنيق يرتدي لغة التحديث الإداري؟
قانون العاملين الموحّد واستمرار فلسفة الدولة الاجتماعية
منذ مطلع ستينيات القرن الماضي، ارتكزت فلسفة الدولة السورية على مفهوم العدالة الاجتماعية بوصفها أحد أعمدة الشرعية السياسية والاجتماعية للنظام العام، وتجسّد هذا المبدأ في الدور الواسع للدولة بوصفها المشغّل الأكبر والحامي الرئيسي للطبقة الوسطى والموظفين، حيث غدت الوظيفة العامة ليست فقط وسيلة للرزق، بل رمزا للمساواة والاندماج الوطني.
نشأ قانون العاملين الموحّد رقم 50 لعام 2004 كامتداد لتلك الرؤية، لا كقطيعة معها، وأعاد القانون إنتاج النموذج المركزي للدولة الراعية التي ترى في جهازها الإداري أداة لتحقيق التوازن الاجتماعي، أكثر من كونه منظومة كفاءة اقتصادية، واستند إلى مبادئ التراتبية والانضباط والانتماء للمؤسسة بوصفها ضمانات للاستقرار، لا مجرد أدوات للتنظيم الإداري.
اعتمد القانون مبدأ الأقدمية كمسار للترقية، انسجاما مع فلسفة تَعتبر العدالة في توزيع الفرص أهم من التنافس على أساس الأداء الفردي، كما منح الإدارات العامة صلاحيات واسعة في النقل والتأديب، في محاولة للموازنة بين الانضباط الوظيفي من جهة، وضمان الاستقرار المهني والاجتماعي من جهة أخرى.
ومع تحوّل الاقتصاد السوري في العقود التالية نحو مزيجٍ من الانفتاح الحذر والتدخل المركزي، ظلّ القانون 50 يعبّر عن تسوية تاريخية بين البعد الاجتماعي والبيروقراطي للدولة، فهو يحمي العامل من تقلبات السوق، لكنه في الوقت ذاته يُبقيه ضمن منظومة إدارية بطيئة وثقيلة، ترى في الحفاظ على العمل قيمةً اجتماعية تتقدّم أحيانا على مبدأ الكفاءة.
القانون كان انعكاسا لهوية الدولة نفسها كما تشكّلت منذ الستينات؛ دولة تعتبر الوظيفة العامة أداة لإعادة توزيع الدخل وضمان الحد الأدنى من المساواة، قبل أن تكون مؤسسة لإدارة الموارد البشرية أو تحفيز الإنتاجية.
مشروع قانون الخدمة المدنية الجديد: من دولة الرعاية إلى دولة الأداء
يشكّل مشروع قانون الخدمة المدنية لعام 2025 علامة فارقة في المسار التشريعي السوري، فهو تحوّل في فلسفة الدولة نفسها، فبعد عقودٍ من التركيز على العدالة الاجتماعية والاستقرار الوظيفي، تسعى الدولة اليوم إلى إعادة تعريف دورها من “الضامن للعمل” إلى “المنظّم للأداء”.
تسعى وزارة التنمية الإدارية، من خلال هذا المشروع، إلى تحديث الجهاز البيروقراطي عبر تبنّي مفاهيم حديثة في إدارة الموارد البشرية مثل الجدارة، والكفاءة، والشفافية، وربط الأجر بالإنتاجية، وهذا الخطاب يعبّر عن انتقال تدريجي من منطق “الوظيفة بوصفها حقا اجتماعيا” إلى منطق “الوظيفة كعقد يقوم على المسؤولية والأداء”.
المشروع يقترح منظومة تقوم على خمس ركائز رئيسية:
- تعزيز مبدأ الجدارة وتكافؤ الفرص في التعيين والترقية، بما يتجاوز معايير الأقدمية التقليدية.
- ربط الأجور بالإنتاجية كأداة لتحفيز الكفاءة الفردية والجماعية.
- اعتماد آليات تقييم موضوعية للأداء ترتبط بالمساءلة والتطوير الوظيفي.
- إدخال أنماط عمل مرنة كالعقود المحددة المدة والعمل الجزئي والعمل عن بُعد، لتكييف الإدارة مع التحولات التقنية.
- تطوير منظومة التدريب والتأهيل المستمر كأداة لبناء رأس مال بشري فاعل داخل القطاع العام.
يحاول المشروع أن يستبدل نموذج الدولة الراعية بنموذج الدولة المقيمة والمُراقِبة، غير أن هذا التحول الفلسفي يواجه نظاما إداريا سوريا لم يتكوّن تاريخيا بوصفه ساحة تنافسية، فتطبيق معايير الأداء في بيئة لم تُبنَ بعد على الثقة المؤسسية يخلق توترا بين قيم الجدارة وموروثات المركزية القديمة.
فالسؤال الذي يفرض نفسه ليس فقط بمن سيقيّم من؟ بل أي فلسفة للدولة سيعكس هذا التقييم؟ وهل ستظل الدولة الراعي التي توازن بين الكفاءة والعدالة، أم ستتحوّل إلى دولة مراقِبة تُقيس الكفاءة بمعايير اقتصادية خالصة؟
من قانون العاملين إلى قانون الخدمة المدنية: انتقال لغوي أم مؤسسي؟
مشروع قانون الخدمة المدنية الجديد يشكل تحوّلا في فلسفة الدولة إزاء معنى العمل العام، فبينما كان قانون العاملين الموحّد يُؤسّس لفكرة الوظيفة كـ”حق اجتماعي” نابع من التزام الدولة تجاه مواطنيها، يُعيد المشروع الجديد تعريف الوظيفة كـ”أداة وظيفية” تُقاس بالمردود وتُدار بالعقد.
هذا التحوّل لا يمكن قراءته فقط من زاوية الإدارة العامة، بل في ضوء تغيّر النظرة إلى الدولة كمؤسسة اقتصادية أكثر منها راعية اجتماعية، فالوظيفة لم تعد وسيلة لإعادة توزيع الدخل أو ضمان الاستقرار الاجتماعي، بل وحدة إنتاجية ضمن منظومة الموارد الوطنية، تخضع لمؤشرات أداء محددة، وتُدار وفق منطق الكفاءة والتكلفة والعائد.
يتراجع البعد الأخلاقي للوظيفة العامة لصالح بعدها الأدائي؛ ويُستبدل خطاب “المواطنة الوظيفية” بخطاب “الفعالية المؤسسية”، فالموظف، في تصور القانون الجديد، لم يعد ممثلا للطبقة الوسطى المستقرة كما في العقود السابقة، بل عنصرا في منظومة إنتاج إداري متحركة، يمكن تقييمها وإعادة توزيعها أو الاستغناء عنها وفق الحاجة والنتائج.
القانون الجديد في جوهره، انتقال من دولة “توزّع الفرص” إلى دولة “تقيّم الكفاءات”، ومن مفهوم “العمل بوصفه حقا” إلى “العمل بوصفه وظيفة قابلة للقياس والمساءلة، وهذا التحول وإن كان منسجما مع منطق الحداثة المؤسسية، يبقى مرهونا بقدرة الدولة على ضبط هذه الكفاءة بالعدالة، حتى لا تتحوّل الفعالية إلى ذريعة للإقصاء، ولا يُستبدل الاحتكار البيروقراطي القديم باحتكار تقني جديد يتحدث بلغة الإصلاح ويعمل بمنطق السيطرة.
من الأمان الوظيفي إلى اللايقين المهني
يمثّل التحوّل من نظام الوظيفة الدائمة إلى العقود المرنة أحد أبرز التغيّرات البنيوية التي يقترحها مشروع قانون الخدمة المدنية الجديد، ففي سياق اقتصادي تتراجع فيه فرص العمل المستقر ويضعف فيه القطاع الخاص، لا يقتصر هذا التغيير على بعده الإداري، بل يمس مرتكزا اجتماعيا تأسيسيا ارتبط منذ الستينات بفكرة العدالة والضمان الوظيفي.
كان الأمان الوظيفي، لعقود، جزءا من العقد الاجتماعي غير المعلن بين الدولة والمواطن؛ إذ ضمنت الدولة استقرار العمل مقابل الولاء والانضباط، فشكّلت الوظيفة العامة أحد أهم صمامات الأمان في مجتمعٍ محدود الموارد، أما إدخال العقود المحدّدة والتقييم الدوري ينقل العلاقة إلى منطق جديد يقوم على المشروطية والأداء، حيث يصبح الاستمرار في العمل نتيجة لا ضمانة.
هذا التحوّل، وإن بدا منطقيا في إطار تحديث الإدارة، يفرض تحديا ثقافيا على بنية الجهاز العام، فيُطلَب من مؤسساتٍ شُيّدت على قيم الاستقرار أن تتبنّى فجأة ثقافة المرونة والمساءلة، وبين هاتين القيمتين تقف فلسفة الدولة نفسها أمام اختبارٍ جديد، فهل يمكن أن تُطبّق منطق الكفاءة دون أن تفقد ما تبقّى من توازنها الاجتماعي؟
من دولة الرعاية إلى دولة القلق
إذا كان قانون العاملين الموحّد وُلد في حضن دولة اجتماعية رَعَت الاستقرار عبر ضمان الوظيفة والأجر والولاء، فإن مشروع قانون الخدمة المدنية الجديد يأتي في زمنٍ مختلف تماما؛ زمن دولةٍ قلقة، تبحث عن شرعيتها في معايير النيوليبرالية الإدارية من الكفاءة، والمرونة، والإنتاجية، والتقييم المستمر.
هذه المعايير، التي وُلدت في بيئات مؤسساتية ناضجة، حين تُنقل إلى سياق هشّ كالسياق السوري، تُنتج مفارقة بنيوية؛ دولة تتحدث بلغة السوق، لكنها لا تزال تُمارس منطق السيطرة؛ وتُطالب موظفيها بالأداء، لكنها لا تمنحهم أدواته.
إن التحوّل من دولة الرعاية إلى دولة الكفاءة لا يكون إصلاحا إلا إذا استند إلى ثقة مؤسسية وعدالةاجتماعية تحفظ معنى الخدمة العامة، فما لم تُحافظ الدولة على بعدها الاجتماعي وهي تتبنى أدوات النيوليبرالية، فإنها تخاطر بأن تُعيد إنتاج الهشاشة ذاتها التي تدّعي تجاوزها.