اللامركزية المؤجلة في سوريا: قراءة تحليلية في وثيقة الإدارة المحلية والبيئة ومقارنتها بالتجارب الدولية

القرار الصادر عن وزارة الإدارة المحلية والبيئة بتاريخ 29 آذار 2025، ينصّ على إنشاء مديريات عامة للإدارة المحلية والبيئة ضمن المحافظات، في خطوة تهدف، رسميا على الأقل إلى تعزيز فعالية المؤسسات المحلية وتنظيم العلاقة بين السلطات الإدارية في المركز والمحيط، إلا أن قراءة متأنية للنصوص التنظيمية تظهر أن السلطة المركزية ما تزال هي الجهة المقرِّرة في التعيين، والمراقبة، وإقرار السياسات، ما يعني أن عملية “اللامركزية” تظل في الإطار الشكلي أكثر منها في الجوهر.

هذه المقاربة ليست جديدة في التجربة السورية، فمنذ صدور المرسوم 107 لعام 2011 حول قانون الإدارة المحلية، ظلت الفجوة قائمة بين النص الطموح والممارسة الفعلية التي بقيت أسيرة المركزية البيروقراطية والأمنية وظروف اضطرابات 2011.

القرار الأخير يذهب خطوة إضافية، عبر محاولة دمج البعد البيئي والإداري في هيكل واحد، وهو ما يُفهم كمسعىً إلى “إدارة متكاملة للمحافظة”، تجمع التخطيط العمراني، والبيئة، والخدمات العامة، تحت سلطة واحدة.

المقارنة الدولية – بين المركزية السياسية واللامركزية الإدارية

في التجارب الدولية، يمكن تصنيف نظم الإدارة المحلية ضمن طيف واسع يمتد بين المركزية الصارمة على غرار النموذج الفرنسي التقليدي، واللامركزية الواسعة كما في ألمانيا وسويسرا وكندا، وما يميز النظم اللامركزية الحديثة هو نقل الصلاحيات الفعلية وليس الشكلية، وتمكين المجتمعات المحلية من المساءلة والمشاركة في القرار.

1. النموذج الفرنسي

تُعد فرنسا من أوائل الدول التي اعتمدت مفهوم “اللامركزية الإدارية” في ثمانينيات القرن الماضي، عبر قانون “ديفر” (Defferre Laws)، ومع أن فرنسا ظلت دولة مركزية في بنيتها السياسية، فإنها نجحت في نقل صلاحيات واسعة إلى الأقاليم والبلديات في مجالات التعليم والنقل والتنمية المحلية.
والنقطة الجوهرية هنا أن اللامركزية الفرنسية قيدت بالرقابة الإدارية وليس بالوصاية السياسية؛ فالسلطة المحلية تملك القرار ضمن الإطار القانوني، ولا تُعتبر “تابعة” للوزير أو المحافظ، بل خاضعة للرقابة القضائية فقط.

النموذج الألماني

في المقابل، يعتمد النظام الألماني على الفيدرالية الدستورية، حيث تملك الولايات (Länder) صلاحيات تشريعية وتنفيذية موسعة، بما في ذلك في مجالات التعليم والشرطة والبيئة، وما يميز هذا النموذج هو وجود مجالس منتخبة ذات تمثيل حقيقي، إضافة إلى توزيع مالي عادل يضمن استقلالية القرار المحلي.
وبالمقارنة مع النموذج السوري فإنه لا يقترب من هذا المستوى في اللامركزية، إذ تبقى المحافظات مجرد وحدات تنفيذية تابعة للوزارات المركزية.

النموذج المغربي – التجربة الأقرب

تطرح التجربة المغربية أحيانا كنموذج “وسط” في العالم العربي، فالمغرب عبر دستور 2011، انتقل إلى ما سُمّي “الجهوية المتقدمة”، حيث مُنحت الجهات صلاحيات واسعة في التخطيط والتنمية والبيئة، مع بقاء الدولة المركزية حاضنة للإشراف العام.
النموذج السوري يبدو محاولة لتقليد الشكل دون المضمون، إذ تُحدّد مهام المديريات العامة في إطار إداري ضيق، وتحت سلطة الوزير أو المحافظ، دون إشارات واضحة إلى المساءلة الديمقراطية أو تمثيل المجتمع المحلي.

فلسفة الإدارة المحلية – من البيروقراطية إلى الحكم المحلي

في الأدبيات السياسية الحديثة، لا تُختزل الإدارة المحلية في البنى المؤسسية فقط، بل تُعد مؤشرا على طبيعة العقد الاجتماعي، فحين تسمح الدولة للمجتمعات المحلية بإدارة شؤونها، فإنها تُقر بوجود تعددية داخل الوحدة الوطنية، وتفتح الباب أمام “التمايز في إطار الوحدة”.

قرار “إحداث المديرية العامة للإدارة المحلية والبيئة” تبدو استمرارا لمنطق الدولة الممركزة التي تُعيد إنتاج صلاحياتها عبر أدوات محلية جديدة، لا عبر تفويض حقيقي، فهي إصلاح من دون حرية، وتحديث إداري يخدم كفاءة السلطة، لا تمكين المجتمع.
فالتغيير في الشكل لا يطال بنية القرار؛ فالمحافظ لا يزال الممثل الأعلى للسلطة التنفيذية في المحافظة، والمسؤولون المحليون يُعيّنون من المركز، ولا ينتخبهم المواطنون.

البعد البيئي والإداري – نحو “حوكمة محافظة”؟

إدماج الشأن البيئي في هيكل الإدارة المحلية هو التطوّر اللافت في القرار، ففي العقود الأخيرة، باتت البيئة محوراً رئيسياً في الحوكمة المحلية عالميا، حيث تعتمد بلدان عدة، كالهند والبرازيل، على المجالس البلدية في إدارة النفايات، والطاقة المتجددة، والتخطيط المستدام.
لكن في الحالة السورية، تبدو الإضافة البيئية أقرب إلى توسيع الجهاز البيروقراطي أكثر من كونها رؤية جديدة، فالقرار لا يشير إلى آليات تنسيق أو مشاركة مجتمعية، ولا إلى نظام مساءلة بيئي أو شراكة مع المجتمع المدني، فالخطوة تنظيمية ربما تحسّن الأداء الفني، لكنها لا تغيّر نمط الحكم.

اللامركزية كرافعة للاستقرار – قراءة سياسية

في الدول الخارجة من النزاعات، كالتي شهدتها سوريا، تُعتبر اللامركزية وسيلة لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، وهذا يتطلب نقلا حقيقيا للسلطة المالية والإدارية إلى المحافظات، واعترافا بالتنوع المحلي لا كمصدر تهديد، بل كعنصر ثراء وشرعية.
أما النموذج الحالي في القرار، فهو يعيد ترميم المركز عبر واجهات محلية، في حين يبقى القرار الفعلي في دمشق، وهذا ما يجعل التجربة أقرب إلى “اللامركزية الإدارية المقنّنة”، لا إلى “الحكم المحلي الديمقراطي”.

نحو رؤية إصلاحية سورية

إذا أردنا أن نستلهم التجارب العالمية، يمكن اقتراح ثلاثة مسارات إصلاحية متدرجة:

  1. تمكين انتخابي عبر انتخاب المحافظين أو رؤساء المديريات من قبل المجالس المحلية، لا تعيينهم من المركز.
  2. استقلال مالي نسبي من خلالتمكين المحافظات جباية جزء من الضرائب المحلية، وربط الإنفاق بالأولويات المجتمعية.
  3. شراكة مدنية بإدماج الجمعيات المحلية والجامعات في لجان التخطيط البيئي والتنمية المستدامة.

بهذه العناصر يمكن أن تتحول المديرية العامة للإدارة المحلية من مجرد هيكل إداري إلى رافعة للتنمية المحلية المستدامة، على غرار ما هو معمول به في إسبانيا وإندونيسيا بعد الإصلاحات اللامركزية فيهما.

ما بين الشكل والجوهر

يبدو القرار محاولة لملء الفراغ الإداري الذي خلّفته سنوات الحرب وضعف المؤسسات، لكنه لا تتجاوز بعدُ عتبة المركزية، فهو نموذج “الديمقراطية غير الليبرالية” في سياقها الإداري، فهناك إطار مؤسساتي يبدو منفتحا ظاهريا، لكنه يظل محكوما بذهنية السيطرة المركزية.

اللامركزية ليست مجرد قانون أو هيكل تنظيمي، بل ثقافة حكم جديدة تعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، والسلطة والمواطنة، والتنمية والحرية.

اللامركزية المؤجلة في سوريا: بين الشكل والجوهر

تحليل قرار إنشاء المديريات العامة للإدارة المحلية والبيئة

الوضع الحالي والمشاكل

تعيين مركزي

المحافظون والمسؤولون يُعيّنون من المركز

رقابة مركزية

السلطة المركزية تتحكم بالمراقبة والسياسات

صلاحيات شكلية

لا مساءلة ديمقراطية ولا تمثيل حقيقي للمجتمع المحلي

هيمنة المركز

القرار الفعلي يبقى في دمشق رغم المظهر اللامركزي

النماذج الدولية

🇫🇷 فرنسا
لامركزية إدارية

رقابة إدارية لا وصاية سياسية – صلاحيات واسعة في التعليم والنقل

🇩🇪 ألمانيا
فيدرالية دستورية

ولايات ذات صلاحيات تشريعية وتنفيذية – مجالس منتخبة حقيقية

🇲🇦 المغرب
جهوية متقدمة

صلاحيات واسعة في التخطيط والتنمية مع إشراف مركزي

الحلول والإصلاحات المقترحة

التمكين الانتخابي

  • انتخاب المحافظين محلياً
  • انتخاب رؤساء المديريات
  • تمثيل حقيقي للمجتمع

الاستقلال المالي

  • جباية ضرائب محلية
  • ربط الإنفاق بالأولويات
  • تمويل مستقل للمشاريع

الشراكة المدنية

  • إدماج الجمعيات المحلية
  • مشاركة الجامعات
  • لجان تخطيط بيئي

الصلاحيات الفعلية

  • نقل حقيقي للسلطات
  • استقلال في القرار
  • مساءلة محلية

الخلاصة

القرار الحالي يبقى في الإطار الشكلي للامركزية دون جوهر حقيقي، ويحتاج إلى إصلاحات عميقة لتحقيق حكم محلي فعال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *