الوهم الإصلاحي في سوريا: نصف عام من الإجراءات

في النصف الأول من عام 2025، دخلت سوريا مرحلة اقتصادية جديدة لا لأن معجزة تنموية حدثت، بل لأن الرواية الرسمية تم إعادة صياغتها بعناية لتغلف الانهيار بمنطق “الإصلاح الضروري”، ومن زاوية الاقتصاد الكلي، ما يجري لا يمكن وصفه إلا بـ “سياسات تشظّي متقدمة في اقتصاد هش”، ترافقها نبرة خطابية واهمة بأن سوريا بصدد الخروج من عنق الزجاجة، بينما الواقع يُظهر أن الزجاجة ذاتها تكسّرت منذ زمن.

مفارقة رفع الرواتب والتضخم في سوريا

في 22 حزيران أعلنت الحكومة السورية الجديدة زيادة بنسبة 200% في الرواتب، ونظريا تبدو الخطوة إجراء طال انتظاره، لكن في اقتصاد غير مُنتج، حيث يستمر التضخم وكأنه حالة مزمنة، وأي ضخ نقدي بهذا الحجم يؤدي غالبا إلى مزيد من التآكل في القوة الشرائية.

ما أغفلته السلطة هو أن الزيادة جاءت بعد أشهر من تحريك الأسعار وتحرير تدريجي للدعم، ما أفرغ الزيادة من معناها قبل أن تُصرف، حيث تم إعطاء المواطن رقما أعلى في كشف الراتب، لكنه لا يشتري به إلا أقل مما كان يحصل عليه في 2024، فالزيادات الاسمية في غياب استقرار نقدي لا تعني شيئا سوى هندسة التضخم بربطة عنق.

الراتب يزيد… لكن خبزك ينقص

ما يكشفه الرسم التالي ليس مجرد علاقة زمنية بين الراتب الاسمي ومؤشر القدرة الشرائية، بل مفارقة سوريالية تعبّر عن طبيعة الاقتصاد السوري بعد “الإصلاح”:

في الربع الأول من عام 2025 (كانون الثاني وآذار)، ظلت الرواتب الاسمية ثابتة عند حدود 200,000 ل.س، بينما بدأت القدرة الشرائية بالهبوط من 100 إلى 95 ثم 88، ما يعكس تضخمًا زاحفا لم تُرافقه أية سياسات تعويضية، هذا ليس تضخما “مفاجئا”، بل تآكل ممنهج بفعل تحرير أسعار السلع والدعم.

ثم جاءت “المفاجأة الكبرى” في حزيران، بزيادة الرواتب بنسبة 200%، أي إلى 600,000 ل.س، لكنها لم تنجح إلا في خفض مؤشر القدرة الشرائية إلى 84 فقط، فالدولة أخذت من جيبك الأيسر، ثم أعادت بعضه إلى جيبك الأيمن، لكن بعد أن حرقته قليلا.

حين تزيد الأجور في اقتصاد غير منتج، بلا صادرات ولا احتياطي نقدي، فأنت لا تُنقذ المواطنين بل تدفعهم إلى دوامة تضخم مقنّع، فالراتب في سوريا لم يعد أداة حياة، بل أداة تهدئة سياسية مؤقتة.

الخصخصة وتسريح الموظفين: إصلاح أم تهديد اجتماعي؟

في خطوة تبدو مستنسخة من وصفات صندوق النقد في الثمانينات، شرعت الحكومة في تسريح ما لا يقل عن ثلث موظفي القطاع العام، مع الإعلان عن خصخصة 107 شركة صناعية، وهذا القرار نظريا يستند إلى منطق الكفاءة، لكنه في السياق السوري الراهن يبدو أشبه بتصفية بيروقراطية بلا نظام تعويض اجتماعي أو إنتاج بديل.

لا توجد أي ضمانات لمنع تحول الخصخصة إلى إعادة تدوير للفساد القديم عبر بوابات السوق، وإذا ما أضفنا إلى ذلك غياب الشفافية، فإننا أمام وصفة كاملة لـ”اقتصاد أصدقاء السلطة”، وليس اقتصاد سوق حقيقي.

النتيجة؟ توسيع جيش العاطلين عن العمل، مع تحويل موارد الدولة نحو قلة تحت مسمى الاستثمار المحلي أو إعادة الإعمار.

تحرير العملة والقدرة الشرائية

شهدت الليرة السورية انتعاشا نسبيا في سعر الصرف خلال الربع الثاني من العام، وهو ما رُوّج له كدليل على “الثقة بالسوق”، لكن الثقة لا تُشترى بقرار سياسي، وما حدث في الواقع هو تحرير جزئي للعملة تحت الضغط الدولي، في ظل غياب أدوات ضبط نقدي، وفي بيئة لا إنتاج فيها ولا تصدير.

أي تحسن وهمي في سعر الليرة هو مجرد سلوك تصحيحي مؤقت ناتج عن تحويلات المغتربين والمضاربة، لا عن تحسن حقيقي في الإنتاج أو التصدير.

هيكلة الدولة: دمج الوزارات لا يصنع سياسة اقتصادية

دمج وزارات الاقتصاد والتجارة والصناعة في وزارة واحدة، أو توحيد الطاقة والمياه والكهرباء في أخرى، لا يصنع إصلاحا، بل هو أحيانا إعادة تجميل لجهاز بيروقراطي مترهل.

في غياب كفاءات حقيقية، وانعدام رقابة تشريعية مستقلة، فإن هذه الإجراءات الإدارية ما هي إلا أدوات لخفض النفقات على حساب الفعالية، فالمشكلة لم تكن تعدد الوزارات، بل افتقارها جميعا لرؤية اقتصادية متماسكة.

السياق الجيوسياسي والتمويل الغائب

من دون رفع فعلي للعقوبات، ومن دون وجود دولة فعلية تعتمد على دستور وقوانين مع الحفاظ على المنتج الوطني وتشجعيه، وتقديم التسهيلات لدعمه، فإن أي إصلاح اقتصادي سيبقى حبيس الأدراج، فلا خطة استثمارية ممكنة من دون بنوك مراسلة، ولا إنتاج من دون استيراد، ولا حتى خصخصة ذات جدوى من دون تمويل خارجي.

بعض الدول أعلنت عن تخفيف للعقوبات، لكن البيئة الاستثمارية لا تزال عدائية، ليس فقط سياسيا، بل بسبب قوانين غامضة، وقضاء غير مستقل، وأمن اقتصادي هش.

الفقر باقٍ… والطبقة الوسطى تبخرت

حتى بعد الزيادة في الرواتب، لا يزال أكثر من 85% من السكان تحت خط الفقر، و66% في فقر مدقع، والتضخم يتغذى على الدعم المتآكل، وسعر السلع الأساسية يرتفع بوتيرة لا تُقارن بالدخل.

لم تعد الطبقة الوسطى في سوريا “تتقلص” فقط، بل تتآكل حتى التلاشي، وما يتشكل هو مجتمع ذو قاع اقتصادي واسع، وقمة صغيرة من الرابحين الجدد، وهم غالبا من المتعاملين مع الدولة الجديدة بصيغ استثمارية أو أمنية.

ما يجري في سوريا هو تحويل الانهيار إلى واقع مستدام، مغلف بلغة إصلاحية بلا عمق، وبتنفيذ تكنوقراطي يفتقر إلى السياسة والعدالة، فالإصلاح الاقتصادي الحقيقي لا يبدأ بتسريح الموظفين ولا ببيع الشركات العامة، بل ببناء مؤسسات شرعية، ووضع سياسة نقدية مسؤولة، واستعادة ثقة المجتمع قبل السوق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *