سوريا على تخوم التاريخ: تحليل جيوستراتيجي لإحاطة نجاة رشدي ودلالاتها الإقليمية

في عالمٍ ينزاح فيه مركز الثقل من الغرب إلى الشرق، ومن المؤسسات إلى القوى الميدانية، جاءت إحاطة نجاة رشدي أمام مجلس الأمن لتذكّرنا بأن سوريا ليست أزمة سياسية فحسب، بل عقدة جغرافية في قلب صراع الحضارات الصغرى.
البيان الذي ألقته من دمشق لم يكن مجرد خطاب أممي عن مشاركة النساء أو الانتخابات الانتقالية، بل كان نصّا يعكس الزمن السوري الذي لم يعد زمن ثورة أو حرب، بل زمن إعادة هندسة الجغرافيا السياسية.

رشدي تحدثت بلهجة محايدة، لكن خلف كلماتها كان صدى الأسئلة الكبرى التي تُقلق العالم، فهل يمكن إعادة بناء دولة وُلدت من رحم الحرب الباردة ودفنتها حروب ما بعد الحداثة؟
وهل تستطيع سوريا، تلك الرقعة التي اختصرها التاريخ إلى مسرح لكل الإمبراطوريات، أن تستعيد دورها كدولة لا كمجرد موقع؟

دمشق بين الهندسة والقدر

من دمشق، لا من نيويورك، خرج صوت رشدي، وهذه ليست مصادفة، فالأمم المتحدة، بوعي أو دون وعي، أرادت أن تقول للعالم إن التحوّل السوري يُدار من الجغرافيا لا من الدبلوماسية.
سوريا هي واحدة من الأماكن التي تُنتج الجغرافيا فيها السياسة، فجبالها العازلة، وصحاريها الفاصلة، وسواحلها المفتوحة جعلت منها عبر القرون برميل بارود إمبراطوريمَن يسيطر عليها يمسك بخيوط المشرق كله.

إحاطة رشدي، حين تتحدث عن “المرحلة الانتقالية” و”التمثيل المتعدد”، تبدو في ظاهرها أمور تقنية، لكن في العمق هي محاولة لإدارة الإرث الجغرافي لسوريا أكثر من إدارة أزمتها السياسية، فكل جملة تتحدث عن “السويداء” أو “الحسكة” أو “حلب” تحمل خلفها حسابات القوة والسيطرة على الممرات، لا على المجالس النيابية.

السويداء ليست مجرد محافظة مضطربة، بل نقطة ارتكاز في المثلث السوري–الأردني–الإسرائيلي، على تماس بين حدود العشائر والحدود السياسية.
أما الحسكة، فهي المدخل إلى النفط والمياه، وإلى الصراع على هوية الشرق السوري بين الأكراد والعرب والتركمان.
كل حديث عن “الانتخابات” أو “المشاركة” في جوهره مسار عن إعادة توزيع النفوذ بين الطوائف والقبائل والقوى الخارجية.

المرأة كرمز للجغرافيا الممزقة

حين تحدّثت رشدي عن النساء السوريات، وعن ست مقاعد فقط من أصل 119، لم تكن تدافع عن حقوق الجندر بقدر ما كانت تشير إلى انقسام المجتمع السوري بين زمنين؛ زمن المدينة وزمن القبيلة.
فالمرأة، في الخطاب الأممي، تحولت إلى رمز لمدى قدرة الدولة على تجاوز جغرافيتها التاريخية نحو الحداثة السياسية، فمشاركة النساء ليست قضية اجتماعية في سوريا؛ إنها اختبار لمدى قدرة البلاد على التحول من مجتمع جغرافي إلى مجتمع المؤسسات.
في المجتمعات التي تحكمها التضاريس أكثر مما يحكمها القانون، تظل المرأة أول من يُقصى من المجال العام، ولهذا كان خطاب رشدي عن النساء السوريّات تذكيرا بأن المعركة الحقيقية ليست في الانتخابات بل في إعادة تعريف المواطنة خارج خرائط الولاء المحلي والإثني والطائفي.

الاقتصاد كساحة حرب جديدة

حين طالبت رشدي برفع العقوبات ووصفتها بأنها عقبة أمام التحول، كانت في الواقع تشير إلى تحوّل نوعي في الصراع السوري من العسكري إلى الاقتصادي، فالعقوبات، كما تقول، لم تُسقط النظام، لكنها أعادت هندسة الاقتصاد السوري على نحوٍ يجعل الدولة رهينة لشبكات تهريب وتمويل عابرة للحدود.

الاقتصاد السوري ليس اقتصاد دولة، بل اقتصاد جغرافيا متقطّعة:

  • الساحل محكوم بشبكات نفوذ تحددها حركة الميليشيات.
  • الشمال مرتهن لأنقرة.
  • الشرق موزع بين الأميركيين وقوات سوريا الديمقراطية.
  • والجنوب متأرجح بين دمشق وعمّان.

وفي هذه الخريطة، تبدو دعوة رشدي إلى رفع العقوبات بمثابة دعوة إلى إعادة توحيد الجغرافيا عبر الاقتصاد.
فمن دون تدفق التجارة والاستثمار، لن يكون هناك معنى لأي حديث عن «انتقال سياسي».

لكن هذا الطرح يصطدم بعقبة مركزية، فكيف يمكن للاقتصاد أن يُعاد بناؤه دون تحديد من يملك القرار السياسي؟
وهنا تكمن المفارقة فالإصلاح الاقتصادي في غياب دولة مركزية يتحول إلى شكل جديد من الهيمنة الخارجية.

السويداء والجغرافيا المفقودة

حين حذّرت رشدي من هشاشة الوضع في السويداء، كانت تُقرّ ضمنا بأن الدولة السورية فقدت القدرة على الإمساك بمحيطها الجنوبي، تماماً كما فقدت ذاتها المركزية في الشمال الشرقي، فالسويداء تمثل اليوم ما كانت تمثله البلقان في أوروبا مطلع القرن العشرين منطقة صغيرة قادرة على إشعال صراع إقليمي.

المواطن في السويداء الذي يرفع راية الكرامة لا يتحرك في فراغ؛ إنه يقف على خطوط تماس دولية بين الأردن وإسرائيل والولايات المتحدة، وحين تتحدث رشدي عن “خارطة طريق مشتركة” بين عمّان ودمشق وواشنطن، فهي توضح محاولة لتقاسم مسؤولية السيطرة على مساحةٍ كانت تاريخياً بوابة الغزو نحو دمشق.

الجغرافيا هنا هي من تقرر، فالسويداء تقع على ارتفاع يجعلها نقطة مراقبة مثالية، وتتحكم بممرّات التجارة والتهريب، وأي “تسوية سياسية” فيها ليست هي تفاهم جيوستراتيجي على حدود النفوذ الإقليمي.

دمشق وتل أبيب: الخط الرمادي في الجغرافيا الجديدة

الجملة الأكثر غرابة في إحاطة رشدي كانت تلك التي تحدّثت فيها عن “الحوار الجاري بين سوريا وإسرائيل”،
فهذا الاعتراف، الصادر عن الأمم المتحدة، يعني أن الحدود السورية – الإسرائيلية لم تعد خط مواجهة، بل خط توازن.

روسيا، التي كانت تمسك يوما بخيوط الدفاع الجوي السوري، انسحبت تدريجيا إلى مقاعد المراقبة؛ منشغلة بحروبها الممتدة في أوكرانيا وبحر قزوين، وفي الفراغ الذي خلفته، تمددت قوى محلية وإقليمية لترسم توازنات جديدة في الجنوب السوري، أما الولايات المتحدة، المنشغلة بإدارة الأزمات لا بحلها، فاكتفت بسياسة “عدم الاعتراض”، تاركة الباب مفتوحا أمام تفاهمات “إسرائيلية” – سورية محدودة تضمن الهدوء من دون التزامات سياسية.
أما السلطة في دمشق، فترى في “التطبيع الصامت” مع “تل أبيب” فرصة لانتزاع اعترافٍ غير معلن بشرعيتها الجديدة.

هذا التحوّل من العداء إلى الحوار يعكس “الواقعية الجغرافية”، والتي تدل على انتهازية السلطة الحالية حيث تصبح الحدود أداة بقاء أكثر منها رمزا للسيادة، ففي عالمٍ يعاد فيه رسم النفوذ على أساس الأمن المائي والطاقة والاتصالات، لم تعد الحرب أو السلام قرارا سياديا، بل نتاج توازن قوى فوق وداخل الدولة.

خريطة القوة الجديدة

في جوهر خطاب رشدي، يمكن قراءة بداية تشكل نظام إقليمي جديد حول سوريا.

  • روسيا، التي كانت تنظر إلى دمشق يوما كبوابة نفوذها إلى المتوسط، تتعامل معها اليوم كموطئ قدم رمزي، وانكفاء موسكو أمام أعباء الحرب الأوكرانية وتقلص مواردها جعل وجودها في الساحل السوري دفاعيا.
  • تركيا تراها عمقا أمنيا يمنع قيام كيان كردي مستقل.
  • الولايات المتحدة تحافظ على وجود رمزي شرق الفرات لضمان التوازن للإقليمي.

وفي وسط هذا كله، تحاول الأمم المتحدة أن ترسم خطا ثالثا؛ تراها دولة انتقالية تقف بين محاور القوة، لا تابعة لأي منها.

لكن هذا الحياد المثالي يصطدم بواقع القوة الصلبة، فالمؤسسات الدولية لا تملك سوى أدوات الضغط الإنساني والاقتصادي، في حين تُرسم الجغرافيا السورية اليوم بالدبابات والغاز والدرونات.

رشدي تدرك ذلك، لكنها تراهن على الزمن، وعلى أن الإنهاك الإقليمي سيحوّل الصراع إلى تسويات باردة، وعلى أن تعب القوى الكبرى سيجعل من الاستقرار هدفا بحد ذاته، لا وسيلة للهيمنة.

الجغرافيا تحكم السياسة

ما حاولت رشدي قوله بلغة الدبلوماسية الناعمة هو أن سوريا ليست مشكلة سياسية، بل قدر جغرافي.

فكل إصلاح، وكل اتفاق، وكل عملية انتقال، ستبقى رهينة موقعها عند تقاطع ثلاث قارات وثلاث بحار وخمسة محاور نفوذ، ومَن لا يفهم هذا القدر الجغرافي، لن يفهم لماذا تبدو كل مبادرة سياسية في سوريا وكأنها تذوب في الرمال قبل أن تصل إلى الشاطئ.

التحول السوري لن يُقاس بعدد المقاعد البرلمانية أو اللجان الدستورية، بل بمدى قدرة دمشق على استعادة معنى الجغرافيا بوصفها مصدر قوة لا لعنة، وهذا التطلع وفق ما تنتهجه السلطة الحالية من سياسات بعيد المنال.

وحين تتحول الجغرافيا السورية من ساحة عبور للجيوش إلى عقدة توازن بين القوى، عندها فقط يمكن أن نقول إن المرحلة الانتقالية بدأت لا على الورق بل في الأرض.

سوريا على تخوم التاريخ: قراءة جيوستراتيجية

سوريا على تخوم التاريخ: قراءة جيوستراتيجية

تحليل تفاعلي لإحاطة نجاة رشدي أمام مجلس الأمن والتحولات الجيوسياسية في سوريا

الجغرافيا التاريخية لسوريا

سوريا هي واحدة من الأماكن التي تُنتج الجغرافيا فيها السياسة، فجبالها العازلة، وصحاريها الفاصلة، وسواحلها المفتوحة جعلت منها عبر القرون برميل بارود إمبراطوري.

توزيع النفوذ الإقليمي والدولي

  • روسيا: تتعامل مع سوريا كموطئ قدم رمزي
  • تركيا: تراها عمقاً أمنياً يمنع قيام كيان كردي مستقل
  • الولايات المتحدة: وجود رمزي شرق الفرات لضمان التوازن الإقليمي
  • إيران: نفوذ عبر الميليشيات في الساحل والمناطق الاستراتيجية

الاقتصاد كساحة حرب جديدة

الاقتصاد السوري ليس اقتصاد دولة، بل اقتصاد جغرافيا متقطّعة. العقوبات أعادت هندسة الاقتصاد السوري على نحوٍ يجعل الدولة رهينة لشبكات تهريب وتمويل عابرة للحدود.

المناطق الاستراتيجية والصراع

السويداء: نقطة ارتكاز في المثلث السوري–الأردني–الإسرائيلي الحسكة: المدخل إلى النفط والمياه حلب: العاصمة الاقتصادية والممر التجاري الساحل: محكوم بشبكات نفوذ الميليشيات

سيناريوهات المستقبل المحتملة

  • تسويات باردة نتيجة الإنهاك الإقليمي
  • الاستقرار كهدف بحد ذاته وليس وسيلة للهيمنة
  • تحول الجغرافيا السورية من ساحة عبور إلى عقدة توازن

العلاقات العابرة للحدود

“هذا التحوّل من العداء إلى الحوار يعكس ‘الواقعية الجغرافية’، فتصبح الحدود أداة بقاء أكثر منها رمزا للسيادة”

التطور الزمني للتحولات الجيوسياسية

مرحلة ما قبل الأزمة

سوريا كدولة وُلدت من رحم الحرب الباردة ودفنتها حروب ما بعد الحداثة

بداية الأزمة

تحول من زمن الثورة إلى زمن الحرب وإعادة هندسة الجغرافيا السياسية

التدخلات الإقليمية والدولية

روسيا، إيران، تركيا، والولايات المتحدة ترسم خريطة جديدة للنفوذ

المرحلة الحالية

التحول من الصراع العسكري إلى الاقتصادي وإعادة تعريف الجغرافيا السياسية

المستقبل المتوقع

تسويات باردة وتحول الجغرافيا من مصدر صراع إلى عقدة توازن

تم إنشاء هذا الرسم البياني التفاعلي بناءً على تحليل إحاطة نجاة رشدي أمام مجلس الأمن – جميع البيانات توضيحية لأغراض التحليل الجيوسياسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *