سوريا 2025: خرائط متوترة على تخوم جغرافيا مضطربة وتاريخ متغير

مع نهار جديد خانق في آب، كانت القنيطرة تستيقظ على وقع سيناريو يعرفه أهل الجنوب جيدا، لكنه لا يفقد وطأته مع التكرار، فعبر خطوط الهدنة الصامتة منذ عقود، تقدمت آليات إسرائيلية مدرعة ببطء محسوب، اخترقت عمق الريف السوري لبضعة كيلومترات، نصبت حواجز، أوقفت المارة، قلبت وجوههم بحثا عن شيء لا يُفصح عنه، ثم انسحبت في صمت ثقيل، ولم يكن المشهد مجرد حادث ميداني عابر، بل رسالة واضحة بأن حدود سوريا الجنوبية لم تعد خطوطا آمنة، بل جبهات مؤجلة الانفجار.

الجنوب: أرض الخطوط القابلة للكسر

القنيطرة، بسهولها المكشوفة ومرتفعاتها التي تراقب شمال فلسطين والأردن، هي أكثر من مجرد رقعة جغرافية، فهي صندوق أسود لحروب العرب و”إسرائيل”، ومختبر صامت لسيناريوهات ما بعد الحرب السورية.

التوغل الأخير لا يمكن عزله عن واقع استراتيجي أوسع، فـ”إسرائيل” ضمنت حدودها الشمالية عبر سنوات من الردع والاغتيالات الجراحية، وتختبر الآن حدود التمدد داخل فراغ السيادة السورية، بينما دمشق منشغلة بتفكيك ألغامها السياسية في الشمال الشرقي.

الشمال الشرقي: جغرافيا الاتفاقيات المؤجلة

على بُعد مئات الكيلومترات من القنيطرة، في السهول القاحلة الممتدة نحو نهر الفرات، تدور معركة سياسية باردة بين دمشق و”الإدارة الذاتية” الكردية، حيث ألغت الحكومة السورية مشاركتها في محادثات باريس التي كان يُفترض أن تناقش دمج قوات “قسد” ضمن بنية الجيش السوري، والرسالة واضحة، فدمشق لا تفاوض من موقع ضعف أمام مؤتمرات تُدار بروح الأمر الواقع.
لكن هذه ليست مجرد مفاوضات سياسية؛ إنها اختبار لمعادلة معقدة؛ كيف يمكن لدولة ما أن تحافظ على وحدة أراضيها وهي مضطرة للتعامل مع كيان مسلح ومدعوم خارجيا؟
المشهد مثال كلاسيكيا لـ”جغرافيا التمزق” حيث يلتقي الفراغ الأمني مع الطموح الإثني ومع خرائط القوى الإقليمية.

دمشق: إصلاحات على وقع العجز

أما في قلب العاصمة، وبين الجدران المتهالكة للمؤسسات الحكومية، أعلن وزير الطاقة عن خطة لتأسيس شركتين قابضتين لإدارة النفط والكهرباء، وعلى الورق، تبدو الخطوة إصلاحا إداريا؛ في الواقع هي محاولة لاستعادة السيطرة على ما تبقى من شرايين الاقتصاد.
في بلد يعاني من انقطاع التيار الكهربائي معظم ساعات اليوم، ومن قطاع نفطي يتناقص إنتاجه عاما بعد عام، يصبح أي إصلاح في الطاقة شأنا استراتيجيا لا يقل حساسية عن ملف الحدود أو التفاوض مع الكرد،
والتجربة تقول إن كل من يمسك بمفاتيح الطاقة في سوريا يمسك بخيوط السلطة، أو على الأقل بقدرتها على الاستمرار.

السويداء: الجنوب الداخلي

إلى الشرق قليلا من درعا، وفي أعالي جبل العرب، يعيش الجنوب السوري أزمته الخاصة، فمنذ تموز، لم تهدأ السويداء بعد سقوط عشرات القتلى في أحداث وُصفت بأنها “الأسوأ منذ سنوات”، والزعيم الروحي للطائفة الدرزية، حكمت الهجري، دعا إلى تحقيق دولي وإحالة المسؤولين إلى المحكمة الجنائية، أما غرفة العمليات المحلية فذهبت أبعد؛ معلنة وجود تنسيق مع واشنطن وتل أبيب لتشكيل لجنة تحقيق أممية.
السويداء، بتاريخها الطويل من الاستقلالية النسبية، ليست مجرد محافظة، بل حالة سياسية، فالدولة السورية موجودة بالاسم أكثر مما هي موجودة بالفعل، بينما العلاقات بين المكونات المحلية والقوى الإقليمية تُنسج بهدوء ولكن بعمق.

تحالفات مدهشة: اللامركزية ككلمة سر

وسط كل هذا برز مشهد نادر؛ قادة دينيون من الطائفتين الدرزية والعلوية يلتقون على دعم مشروع دولة لامركزية، وفي السياق السوري، هذه الفكرة ليست شعارا سياسيا فحسب، بل تحمل معنى خطيرا بالنسبة لبئية سياسية اعتادت على مركزية مطلقة منذ خمسين عاما.
يرى البعض أن الأمر لا يعدو كونه مناورة سياسية، لكن كابلان سيقرأه كإشارة مبكرة على أن فكرة “سوريا ما بعد المركزية” بدأت تتسلل من الهامش إلى قلب النقاش الوطني، حتى لو لم تُعلن رسميا.

الاقتصاد: مفارقات الاستقرار وسط الفوضى

على نحو مفارق، بقيت أسعار الذهب مستقرة نسبيا رغم التوترات، وكأن السوق يعيش في جزيرة منعزلة عن السياسة، ربما هو نوع من الاستقرار المصطنع بفعل محدودية العرض وضعف الطلب، لكنه يشي بأن السوريين باتوا يتأقلمون مع اقتصاد دائم الأزمة، حيث لا صدمة أكبر من تلك التي مروا بها بالفعل.
ومن الخارج، تمد قطر أنابيب دعمها عبر مشاريع الكهرباء، فيما يبدو وكأنه محاولة لإبقاء بعض شرايين البنية التحتية حية، حتى وإن كان الجسد العام للدولة يترنح.

المشهد الأوسع: سوريا كعقدة جيوسياسية

عند قراءة هذه الخيوط معا، تتضح صورة مركبة:

  • حدود جنوبية هشة أمام تمدد قوة عسكرية إقليمية كـ”إسرائيل”.
  • جبهة شرقية مؤجلة الحل مع الأكراد، تتداخل فيها حسابات تركيا والولايات المتحدة وروسيا.
  • عمق داخلي مضطرب في السويداء، تتشابك فيه الهويات المحلية مع مصالح قوى خارجية.
  • إصلاحات اقتصادية مقيّدة بواقع العقوبات والانهيار البنيوي.
  • خطابات سياسية جديدة تتحدى نموذج الدولة المركزية.

سوريا اليوم هي مثال ناصع على الدولة–المفترق؛ بلد تتقاطع فيه خطوط المواصلات القديمة مع مسارات الأزمات الحديثة، حيث كل خطوة ميدانية أو سياسية هي في الوقت نفسه محلية وإقليمية ودولية.

لهذا السبب، تبدو أي قراءة للوضع السوري ناقصة إذا لم تُدرج البعد الجغرافي كتفسير أساسي، فالتوغل في القنيطرة ليس مجرد خرق حدود، بل فعل يتم على مرمى البصر من جبل الشيخ وخلفه سهول الجليل، وهي مواقع حملت دوما ثقل التاريخ العسكري للمنطقة.
والانسحاب من مفاوضات باريس ليس مجرد موقف سياسي، بل انعكاس لخطوط إمداد القوة والنفوذ عبر شمال شرق سوريا حتى حدود كردستان العراق.

على إيقاع الزلازل البطيئة

لا أحد يتوقع أن تنفجر كل هذه الملفات دفعة واحدة، فالأزمات السورية باتت تتحرك كزلازل بطيئ، تغيّر المشهد ببطء لكن بثبات، ومع كل اهتزاز، تتغير الخرائط قليلا، وتتبدل الولاءات، ويعاد تعريف معنى السيادة.
سوريا ليست فقط بلدا منكوبا بالحرب، بل مختبرا حيا لما يحدث حين تلتقي الجغرافيا الصعبة بتاريخ غير مستقر، في زمن تآكلت فيه قدرة النظام الدولي على فرض قواعد واضحة للعبة.

ربما بعد عقد من الآن، حين ينظر المؤرخون إلى صيف 2025، سيرونه ليس كذروة أزمة، بل كمرحلة من مراحل إعادة التشكل؛ لحظة كانت فيها البلاد، بكل تناقضاتها، على عتبة تحول جديد، يقود إلى تفكك أعمق أو إلى تسوية غير متوقعة، لكن المؤكد أن ما يجري من القنيطرة إلى الفرات، ليس أحداثا متفرقة، بل خيوطا في نسيج واحد يعمل عليه السوريون والقوى التي تتقاطع مصالحها فوق أرضهم، على إيقاع بطيء ولكنه حتمي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *