التضخم في سوريا 2025: انهيار الليرة وارتفاع الأسعار وتكاليف المعيشة

في الوقت الذي تواصل فيه الليرة السورية رحلة انحدارها الطويلة أمام الدولار، تبدو البلاد وكأنها عالقة في دائرة تضخمية يصعب كسرها، فالأرقام، رغم جفافها الظاهري، تُخبر حكاية قاسية عن مجتمع يتقلص دخله الواقعي شهرا بعد شهر، بينما تتسع الفجوة بين القدرة الشرائية والاحتياجات الأساسية.

التضخم لم يعد رقما في تقرير اقتصادي، بل أصبح معيشة يومية تقاس بعدد الأرغفة، لا بعدد النقاط في مؤشر الأسعار.

مؤشرات متناقضة… لكن الواقع أوضح من الأرقام

بحسب البيانات الأخيرة من موقع  Trading Economics، بلغ مؤشر أسعار المستهلك (CPI) في سوريا5141  نقطة في شباط 2025، مرتفعا من 4927 في كانون الثاني، أي بزيادة شهرية تتجاوز 4.3%.
أما معدل التضخم الشهري فاستقر عند نحو 15.8%  في شباط، بعد أن لامس 22.7% في كانون الثاني، على الورق، وتبدو هذه الأرقام وكأنها تعكس تباطؤاً في وتيرة الغلاء، لكن في الأسواق السورية، الواقع مختلف تماما.

تقرير “الشبكة السورية للبحوث” لشهر كانون الثاني 2025 أشار بوضوح إلى أنّ تباطؤ التضخم لا يعني تحسّن المعيشة، بل “تكيّفاً قسرياً” للمجتمع مع الأسعار الجديدة، بعد أن فقدت الأجور معناها الفعلي.
فما يُوصف “بانخفاض في معدل التضخم” لا يعني أن الأسعار انخفضت، بل أنها لم تعد ترتفع بالسرعة نفسها، وهي مفارقة يعايشها السوريون بوضوح في أسواق دمشق وحلب واللاذقية.

الليرة بين فكي السوق والمصرف

منذ مطلع العام، استقر السعر الرسمي للدولار عند حدود 11,000 ليرة للشراء و11,110  ليرة للبيع، وفق نشرات المصرف المركزي، لكن السوق الموازية، التي تحدد فعليا وجه الاقتصاد الحقيقي، تتحدث بلغة مختلفة:
ففي أيلول 2025، تراوح الدولار بين11,250  و11,500 ليرة في دمشق وحلب، وبلغ في الحسكة نحو 11,450 ليرة.

هذا التباين لا يعكس فقط فجوة سعرية، بل فجوة ثقة، فعندما يتعامل المواطن والتاجر مع سعر غير رسمي لتقييم السلع والخدمات، تفقد السياسة النقدية الرسمية تأثيرها الفعلي، فهناك تسعير مزدوج، واضطراب في التكاليف، وميل دائم نحو رفع الأسعار “احتياطا” لأي هبوط جديد في الليرة.

الذهب مرآة الخوف: 1.23 مليون ليرة للغرام

سعر غرام الذهب عيار 21 بلغ 1,230,000 ليرة سورية في أواخر أيلول، والرقم ليس مجرد مؤشّر على السوق العالمية، بل تعبير عن خوف داخلي، ففي الاقتصادات الهشة، يصبح الذهب ملاذا من فقدان الثقة بالعملة الوطنية.
ارتفاعه يعكس ببساطة هروبا جماعيا من الليرة، ومحاولة لحفظ القيمة في ظل الانهيار النقدي، ومع ذلك، هذا “الملاذ” لا يتاح إلا لأقلية قادرة، بينما الغالبية العظمى تكافح لتأمين حاجاتها اليومية.

تكاليف المعيشة: الغلاء يُمزّق الطبقة الوسطى

الأرقام حول الأسعار المحلية تُظهر واقعا أكثر قسوة:

  • سعر كيلو الحليب بلغ نحو7,500  ليرة،
  • عبوة اللبن 800 غرام وصلت إلى 8,000  ليرة،
  • الجبنة البلدية40,000  ليرة،
  • الجبنة الحلوم تجاوزت70,000  ليرة للكيلوغرام.

هذه الأسعار، في اقتصاد يعتمد على إنتاج محلي، تعكس تضخما مركبا، حيث تؤدي تكاليف الطاقة والنقل (المسعّرة بالدولار فعليا) إلى رفع أسعار كل شيء، حتى المنتجات السورية الصرف.

في المقابل، الأجور لا تزال شبه ثابتة، متوسط راتب الموظف الحكومي لا يتجاوز850 ألف ليرة سورية شهريا أي أقل 75  دولارا بسعر السوق، فربطة خبز واحدة تستهلك أكثر من0.5% من الدخل الشهري للفرد،
وتُصبح المفردات الاقتصادية اليومية الحليب، والجبن، والخبز هي مقاييس حقيقية للفقر، لا الأرقام الرسمية.

الإيجارات: اقتصاد بلا مأوى

في دمشق، ارتفع إيجار شقة صغيرة من 6 ملايين ليرة في منتصف 2024 إلى 10 ملايين ليرة في منتصف 2025.
وفي اللاذقية، وصلت الإيجارات إلى 4 ملايين ليرة شهريا، مقارنة بمليون واحد قبل عام.
أما في بعض أحياء العاصمة، فتُطلب مبالغ تصل إلى 650 دولارا أمريكيا شهريا لشقة متوسطة، وهو رقم يتجاوز عشرة أضعاف متوسط الراتب المحلي، وبهذا المعدل، لم يعد السكن حاجة، بل رفاهية.
وراء هذا الارتفاع مزيج من العوامل: شحّ المعروض، عودة بعض النازحين، زيادة الطلب من المغتربين المؤقتين، وغياب مشاريع إسكان جديدة.
التضخم كسلوك اجتماعي

التضخم السوري اليوم ظاهرة سلوكية، فحين يُدرك الناس أن العملة تتآكل، يتحول الادخار إلى استهلاك فوري، والاستهلاك إلى تخزين، والتخزين إلى مضاربة.
في ظل غياب الثقة بسياسات الدولة المالية، يصبح كل مواطن خبير اقتصاد مصغّر، يراقب سعر الصرف ويتخذ قراراته اليومية بناء عليه:
هل يشتري اليوم أم ينتظر الغد؟
هل يدفع الإيجار بالدولار أم بالليرة؟
هل يخزّن الوقود، السكر، أو الزيت؟

يتحول التضخم إلى منظومة سلوك جماعي ينتج ذاته ذاتيا، ويُعيد إنتاج الأزمة التي بدأ منها.

البعد الإنساني: اقتصاد لا يرحم الفقراء

الصورة الأساسية هي انكماش الطبقة الوسطى، التي كانت لعقود عماد الاستقرار الاجتماعي السوري، فالأسرة التي كانت قادرة على الادخار أصبحت عاجزة عن تغطية الأساسيات.
الفقير صار معدما، والمعدم صار معتمدا على المساعدات، بينما الأغنياء الحقيقيون هم من يملكون القدرة على المضاربة أو التحويل الخارجي.

الاقتصاد الموازي كبديل أمر واقع

تقديرات شبه رسمية تشير إلى أن أكثر من 70% من النشاط التجاري في سوريا يجري اليوم خارج القنوات النظامية.
التجار، الصناعيون، وحتى مقدمو الخدمات باتوا يعتمدون على “اقتصاد ظلّ” غير معلن، يعتمد على السعر الموازي للدولار ويحدد أرباحه وتكاليفه بعيدا عن رقابة الدولة.
هذا الواقع يقوّض أي محاولة لضبط الأسعار أو إعادة الاستقرار النقدي، إذ لا يمكن لمصرف مركزي أن يتحكم بسوق لا يثق به أحد.

هل من مخرج؟

التجارب المقارنة (من لبنان إلى فنزويلا) تُظهر أن معالجة التضخم المفرط تتطلب ثلاثة شروط أساسية:

  1. استقرار نقدي حقيقي عبر توحيد سعر الصرف وإدارة صارمة للكتلة النقدية.
  2. تحفيز الإنتاج المحلي بدل الاكتفاء بالاستيراد المموّل بالدولار.
  3. شبكة حماية اجتماعية تعيد التوازن بين الأجور والأسعار.

لكن في الحالة السورية، هذه الشروط تصطدم بواقع سياسي واقتصادي شديد التعقيد من العقوبات، وضعف الإيرادات العامة، وانكماش القطاع الصناعي، وتراجع الاستثمار الداخلي والخارجي.
كل ذلك يجعل من الحلول قصيرة الأمد — مثل رفع الرواتب أو تحديد الأسعار — مجرد مسكّنات مؤقتة.

التضخم كصورة لمجتمع في الاختبار

تُظهر الأرقام بعض الهدوء في المؤشرات، لكن الشارع السوري لا يشعر إلا بارتفاع الأسعار، فالتضخم في سوريا اليوم ليس أزمة مالية بقدر ما هو أزمة ثقة العملة، وبالمؤسسات، وبالغد.
وحين تنهار الثقة، يصبح الاقتصاد ساحة لتدبير البقاء لا لبناء المستقبل.

بين الليرة التي تفقد قيمتها، والدخل الذي لم يعد يُطعم أسرة، وبين المواطن الذي يتحول إلى خبير في الصرف قسرا، تقف سوريا أمام اختبار وجودي:
هل يمكن لاقتصادٍ أُنهك بالحرب والعقوبات والفساد أن يجد طريقًا نحو العدالة المعيشية؟
ربما الإجابة لا تزال في جيوب الناس، لا في دفاتر المصارف.

سوريا: التضخم وعبء المعيشة 2025

سوريا بين ظلال التضخم وعبء المعيشة: اقتصاد يتنفس بصعوبة (2025)

مؤشر أسعار المستهلك (CPI) ومعدل التضخم الشهري

سعر الدولار

رسمي: 11,000 ليرة (شراء) – 11,110 ليرة (بيع)

موازي: 11,250-11,500 ليرة (دمشق/حلب)

سعر الذهب (عيار 21)

1,230,000 ليرة للغرام

أسعار المنتجات الأساسية (ليرة سورية)

متوسط الراتب الحكومي

850,000 ليرة شهريًا (~75 دولار)

ربطة خبز: >0.5% من الدخل الشهري

الإيجارات (شقة صغيرة)

دمشق: 10 ملايين (من 6 ملايين في 2024)

اللاذقية: 4 ملايين (من 1 مليون)

الاقتصاد الموازي

أكثر من 70% من النشاط التجاري خارج القنوات النظامية

الخلاصة: أزمة ثقة ومعيشة

التضخم يتباطأ (15.8%) لكنه لا يحسن المعيشة. الفجوة بين الأجور والأسعار تتسع، والاقتصاد الموازي يسيطر. الحل: استقرار نقدي، إنتاج محلي، وحماية اجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *