سوريا ولبنان عند مفترق التاريخ: بين التعاون الممكن والتوتر المستمر

وسط استمرار التغيرات العميقة في مشهد الشرق الأوسط، يتكشف فصل جديد من العلاقات اللبنانية–السورية، يحمل بطياته الأمل والمخاطر معا، فالخطاب الراهن ما بين دمشق وبيروت، لم يعد سجالا كلاميا فقط، بل صار ميدانيا ملموسا يشكل واقعا جديدا في حياة الجارتين.

انهيار النظام وبدايات توتر جديد

شكّل انتهاء مرحلة البعث في سوريا وتسلُّم حكومة انتقالية بقيادة أحمد الشرع مقاليد السلطة في دمشق، لحظة سياسية مفصلية، فهذا التحوّل بدا للبعض في بيروت كفرصة تاريخية نادرة لفك الاشتباك الطويل بين السيادة اللبنانية والنفوذ السوري، بعد عقود من التداخل الأمني والسياسي الذي شكّل أحد أعمدة الاستقرار في الداخل اللبناني، والتعهدات العلنية التي أطلقها القادة الجدد في دمشق التي أكدت على التزامهم بمبدأ “عدم التدخل في الشؤون اللبنانية”، أعادت إلى الواجهة أحاديث عن إمكانية بناء علاقة ندّية قائمة على احترام السيادة وحسن الجوار.

لكن خلف هذه الإشارات الإيجابية، تنبض الجغرافيا السياسية بتوترات معقدة يصعب تجاوزها بالشعارات وحدها، فالحدود اللبنانية–السورية أشبه بخط تماس أكثر منها معبرا مدنيا، وشهدت الأشهر الأخيرة تصاعدا خطيرا مع عودة الاشتباكات المسلحة في مناطق مثل الهرمل والقصر ومعبر جوسيه، وتحدثت مصادر ميدانية عن مواجهات مباشرة بين وحدات من الجيش السوري وعناصر مسلحة وترافقت مع عمليات قتل واختطاف متبادل، وردود فعل محدودة من الجيش اللبناني الذي بدا حذرا من الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة.

هذه الاشتباكات التي توالت بوتيرة تصاعدية، دفعت إلى محاولات دولية ومحلية لاحتوائها عبر اتفاقيات وقف إطلاق نار برعاية أمنية لبنانية–عراقية جزئيا، وبضغط من بعثات دولية، غير أن معظم هذه التفاهمات بقي هشّا، غير قابل للصمود أمام تعقيدات المشهد المحلي، وتقاطعات النفوذ الذي لا يزال يحكم إيقاع العلاقات عبر الحدود، وبين تفاؤل سياسي لم يترجم بعد إلى وقائع ملموسة، وواقع ميداني يتحدث بلغة السلاح، تظل العلاقات السورية–اللبنانية أسيرة التناقض بين النوايا المعلنة.

أزمة اللاجئين – العودة كالخيبة أم الفرج؟

لبنان استوعب موجة نزوحٍ كبيرة منذ انطلاق الحرب السورية في 2011، حيث يُقدَّر عدد اللاجئين السوريين بما يتراوح بين 1.4 و1.5 مليون شخص، ويشكّلون نحو ربع إجمالي سكان البلاد، وهي نسبة غير مسبوقة عالميا في بلد مضيف من حيث الكثافة السكانية للاجئين مقارنة بعدد السكان المحليين، وبعد سيطرة سلطة الأمر الواقع على دمشق في كانون الأول 2024، طفت على سطح الحياة السياسية اللبنانية “خطة العودة الطوعية” المشتركة بين الحكومة اللبنانية والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، والمنظمة الدولية للهجرة.

استهدفت الخطة إعادة ما بين 200,000 و400,000 لاجئٍ إلى سوريا خلال 2025 بصيغ تحفيزية تشمل دعما نقيا وتسهيلات لوجستية وقانونية، ووصل عدد العائدين حتى تموز 2025 إلى أكثر من 200,000 سوري عادوا فعليا من لبنان إلى سوريا.

تشير تقارير UNHCR إلى أن عدد العائدين منذ كانون الأول 2024 تجاوز 628,000 شخصا، ما يرفع العدد الإجمالي للعائدين منذ ذلك الحين إلى 988,869، وهذا التوجه شكّل تحولا جذريا، حيث كان فقط 1% من اللاجئين السوريين في لبنان ينوون العودة قبل انهيار النظام، بينما ذكر المدير الإقليمي للـUNHCR  أن هذه النسبة قفزت إلى نحو 24%.

ماذا بعد؟ طريق التعايش الدموي أم التعاون المدروس؟

لا يكفي السرد وحده لفهم ديناميات العلاقات اللبنانية–السورية، إذ يبقى السؤال الجوهري معلقا في الهواء، فهل تستطيع هذه العلاقات أن تعود إلى  حالة طبيعية حيوية تضمن حقوق البلدين، أم أنها ستظل أسيرة قرارات إقليمية تُصاغ خارج حدود البلدين وتُفرَض دون ضمانات مستدامة؟

في ضوء المشهد الحالي، لا يُعوَّل كثيرا على مقاربة شاملة واحدة لحلحلة العقد المتراكمة، بل تشير آراء العديد من المراقبين إلى أن إعادة بناء الثقة تمر عبر “تجزئة المعالجة”؛ فيتم تفكيك كل ملف على حدة، والتعامل معه بمقاربات واقعية، فالأمن الحدودي، ومكافحة التهريب، وعودة اللاجئين، وتحييد السلاح غير الشرعي، كلها محاور قابلة للتفاوض، وإن بشكل تدريجي وهش، وتُمثّل بوابات ممكنة نحو مصالحة استراتيجية لا تُبنى دفعة واحدة، بل تُراكم عبر اختبارات التزام متتالية.

ويتطلب هذا المسار أكثر من النوايا الحسنة أو الضغط الدولي، لأنه يحتاج لإرادة سياسية داخلية حقيقية في بيروت ودمشق، قادرة على تجاوز منطق الحسابات الفئوية والارتهان للخارج، والذهاب نحو إعادة تعريف العلاقة لا كملحقات أمنية أو حدود مشروخة، بل كروابط جغرافية وتاريخية تفرض تعايشا مدروسا، ولو في حدوده الدنيا.

نظرة من قلب الميدان

في المشهد الجيوسياسي الراهن، تبدو العلاقة بين سوريا ولبنان كمنطقة تماس مضطربة بين نظامين سياسيين لم يُحدّدا بعد شكل تفاعلهما في مرحلة ما بعد التحول السوري، فبين ضغوط ديموغرافية تمثّلها أزمة اللاجئين، وأزمات اقتصادية متشابكة تتغذى من بنى دولية مختلّة، وصراعات حدودية تعبّر عن انكشاف أمني مزمن، لا بد ان يحاول الطرفان إعادة تعريف مفهوم “السيادة” في ظلّ شبكة نفوذ إقليمية معقّدة.

لا تملك بيروت ترف الحياد، ولا تستطيع دمشق إعادة إنتاج أدوات السيادة القديمة بظل النظام السياسي الحالي ووضعه الداخلي، والتحدي الحقيقي بين دولتي سوريا ولبنان يكمن في صياغة علاقة جيوسياسية جديدة تحكمها البراغماتية الإقليمية لا الحسابات الأيديولوجية، وتُبنى فيها المصالح المشتركة فوق أنقاض الصراع لا على هامشه، فإن المطلوب في العقد القادم إعادة دورة الحياة الطبيعية بين البلدين، وتحويل الجغرافيا من عبء أمني إلى رافعة تنموية تُستثمر لا تُستنزف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *