في جغرافيا المشرق العربي، لا يمكن النظر إلى سوريا ولبنان ككيانين منفصلين تماما، الجبال والوديان التي تتقاطع بينهما، والأنهار التي تتدفق من سفوح القلمون إلى سواحل المتوسط، ليست مجرد تفاصيل طبيعية، بل خطوط خفية تحكم مسار السياسة والاقتصاد والأمن في هذين البلدين.
العلاقة بين دمشق وبيروت لم تكن يوما علاقة جوار هادئ، بل أقرب إلى شبكة متداخلة من الاعتماد والتوجس، من التحالف والتنافس، من الانجذاب والنفور، وهذا ما يجعل قراءة هذه العلاقة ضرورة لفهم توازنات المشرق برمّتها.
من الانتداب إلى الاستقلال: حدود مصطنعة لمجتمعات متشابكة
حين أعلن الجنرال غورو قيام دولة لبنان الكبير في الأول من أيلول 1920، كان الهدف الفرنسي تثبيت موطئ قدم استعماري على الساحل الشرقي للمتوسط عبر فصل بيروت وجبل لبنان عن سوريا الداخلية، التي كانت آنذاك تحت النفوذ البريطاني– الفرنسي المشترك، فالمشروع في جوهره صناعة كيان لتفكيك ما كان يُعرف بـ”سوريا الطبيعية” الممتدة من حلب شمالا حتى عكا جنوبا.
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، حصل البلدان على استقلالهما، فاستقل لبنان عام1943 وسوريا عام 1946 بعد انسحاب القوات الفرنسية والبريطانية، لكن الاستقلال لم يكن صفحة بيضاء؛ إذ خرج الكيانان بتركة مزدوجة:
- بنية اقتصادية مشتركة تمثلت في عملة موحدة هي الليرة السورية – اللبنانية ويصدرها “بنك سوريا ولبنان” (المؤسس عام 1919)، وظلت متداولة حتى منتصف الخمسينيات.
- مجتمعات متداخلة طائفيا وعائليا فما يزيد عن 300 ألف لبناني كانوا يعيشون في سوريا، مقابل حضور كثيف لتجار سوريين في بيروت وطرابلس وصيدا، إضافة إلى روابط قربى بين عشائر البقاع وحمص والقلمون.
لكن هذا التداخل لم يلغِ التناقضات البنيوية، فلبنان سلك منذ البداية طريق النظام الليبرالي المفتوح الذي جعل من بيروت مركزا ماليا وتجاريا إقليميا، في حين اتجهت سوريا بعد سلسلة انقلابات عسكرية (ابتداءً من انقلاب حسني الزعيم عام1949) ) نحو التوجه القومي الراديكالي، الذي بلغ ذروته مع صعود حزب البعث عام1963 وتبنى سياسات التأميم والتخطيط المركزي.
كشف الاستقلال تشابك العلاقات السورية اللبنانية وخطورة الواو الكافرة بينهما، لكنه بدل أن يعيد الوحدة بينهما، زادت خيارات الطرفين في تهشيمها، فلبنان اندفع إلى اقتصاد الخدمات والرساميل الأجنبية، فيما تبنت سوريا نموذج الدولة القومية الموجَّهة، ما جعل الحدود المشتركة مسرحا للتوترات الاقتصادية والسياسية منذ الخمسينيات.
الانفصال النقدي: من وحدة العملة إلى اقتصادين متناقضين
مع منتصف الخمسينيات، بدأت ملامح الطلاق الاقتصادي بين البلدين تتضح، ففي 1950، أُنشئ مصرف سوريا المركزي، بينما واصل لبنان الاعتماد على “بنك سوريا ولبنان” حتى إنشاء مصرف لبنان عام 1964، وكانت هذه الخطوة إيذانا بإنهاء تجربة العملة المشتركة التي بدأت منذ 1920، وبحلول 1957، أصبح للبنان ليرته الخاصة، فيما باتت سوريا تعتمد على الليرة السورية المنفصلة.
هذا الانفصال لم يكن إجراءً ماليا بحتا، بل انعكاسا لاختيارات سياسية كبرى، فلبنان اختار أن يتحول إلى “هونغ كونغ الشرق الأوسط”؛ فبحلول 1960 كان قطاع الخدمات يشكل أكثر من 60% من الناتج المحلي، بينما اجتذبت مصارف بيروت ما يقارب3 مليارات دولار من الودائع العربية الهاربة من القومية الناصرية والتأميمات، اتجهت سوريا إلى إغلاق الأسواق وتطبيق سياسات التأميم منذ قرارات 1961–1965، حيث أممت أكثر من 100 شركة صناعية وتجارية، وفرضت رقابة على التجارة الخارجية.
جيوسياسيا، هذا التباين جعل من الحدود اللبنانية – السورية خط تماس بين اقتصادين متعاكسين؛ اقتصاد سوق مفتوح يستقطب الرساميل الغربية والعربية، واقتصاد قومي مركزي يعتبر الانفتاح “ثغرة أمنية”، ومنذ تلك اللحظة، صار التهريب عبر البقاع وحمص وحوران جزءا من بنية العلاقة، تعبيرا عن عجز الدولتين عن ضبط هذا التناقض البنيوي.
لبنان كملاذ للمعارضين السوريين: الجغرافيا كحاضنة للسياسة
بالتوازي مع الانفصال الاقتصادي، لعبت الجغرافيا اللبنانية دورا سياسيا لا يقل خطورة، فمنذ الخمسينيات تحولت بيروت إلى ساحة خلفية للمعارضين السوريين، فبعد انقلاب أديب الشيشكلي عام 1951 لجأ عشرات السياسيين السوريين إلى لبنان، بينهم أعضاء من الحزب الوطني والحزب الشيوعي، ومع صعود البعث في 1963، ازداد النزيف البشري نحو لبنان: صحفيون، وأكاديميون، وناشطون إسلاميون تركوا العاصمة السورية مفضلين البقاء في لبنان.
بيروت لم تكن مجرد ملجأ، بل منصة إعلامية، فكان عدد الصحف اللبنانية يتجاوز35 صحيفة يومية في الستينيات، وكثير منها خصص أعمدة لمعارضين سوريين، وهذا ما جعل دمشق ترى في لبنان تهديدا مباشرا لأمنها القومي، فلبنان شكّل “المنطقة العازلة السلبية” لسوريا، فكانت مسرحا مفتوحا لخصومها، لكنه في الوقت نفسه أداة للتنفيس عن أزماتها الداخلية، فالجغرافيا اللبنانية، بانفتاحها على البحر المتوسط وارتباطها بالمحاور العربية والدولية، مثّلت الوجه الآخر لما لا يستطيع الداخل السوري استيعابه.
الحرب الأهلية اللبنانية والتدخل السوري: الاستقرار بالقوة
اندلاع الحرب الأهلية في 13 نيسان/أبريل 1975 كان لحظة مفصلية، فدمشق التي دعمت الفصائل الفلسطينية في لبنان، وجدت نفسها أمام خطر مزدوج؛ فوضى قابلة للتمدد نحو الداخل السوري، وتنامي نفوذ منظمة التحرير بما يتجاوز السيطرة، وفي1 حزيران 1976 دخلت القوات السورية إلى لبنان تحت غطاء “قوات الردع العربية” بقرار من الجامعة العربية، قوامها نحو30 ألف جندي.
لكن هذا الدخول سرعان ما تحوّل إلى واقع مختلف خصوصا مع اشتداد الصراع في الجنوب اللبناني، وفي الثمانينيات ارتفع عدد القوات السورية إلى ما يقارب 40 ألف جندي منتشرين في البقاع والشمال والجنوب وحتى بيروت.
اعتبرت سوريا لبنان “عمقا استراتيجيا” لا يمكن التفريط فيه، فهو منفذها على المتوسط، وحاجز أمام إسرائيل، وأداة للتفاوض مع الغرب.
لبنان وحافظ الأسد
أدرك حافظ الأسد أن لبنان ليس مجرد جارٍ غربي، بل ساحة اختبار حاسمة لمفهوم “الأمن الوطني السوري” الذي لا تقيده حدود سايكس–بيكو، بل يمتد غربا ليشمل الساحل اللبناني وسهل البقاع، ويمتد جنوبا ليحاكي التوازن مع إسرائيل.
اعتبر الأسد الأب أن السيطرة على لبنان أو تحييده ضرورة استراتيجية، تمنع إسرائيل من استغلال الساحة اللبنانية كقاعدة للهجوم أو التسلل نحو العمق السوري، وحين تدخّل في 1976، لم يكن قراره وليد الفوضى اللبنانية فحسب، بل استكمالا لرؤية ترى في لبنان “خاصرة رخوة”.
رؤية الأسد الإقليمية للأمن لم تقف عند حدود ثنائية دمشق–بيروت، بل انطلقت من لبنان نحو الإقليم، فبالإمساك بقرار الحرب والسلم في لبنان، أراد أن يمنح دمشق موقعا تفاوضيا متفوقا أمام واشنطن وتل أبيب، وتجلّى ذلك بوضوح في اتفاقية الهدنة غير المباشرة مع إسرائيل بعد اجتياح 1982، حين استعمل الأسد الورقة اللبنانية لفرض نفسه طرفا إقليميًا لا يمكن تجاوزه.
كان لبنان بالنسبة للأسد “المسرح” الذي تُعرض فيه قوة سوريا، سواء في إدارة العلاقة مع الفصائل الفلسطينية، أو في ضبط ميزان القوى مع إسرائيل، أو في نسج التحالف الاستراتيجي مع إيران بعد 1979، وتحولت الاستراتيجية اللبنانية للأسد إلى أداة لجعل سوريا “الدولة المحورية” التي لا يستقيم أمن المشرق من دونها.
لبنان رهينة الجغرافيا
منذ 2011 وما تلاها من حرب في سوريا انعكس مباشرة على لبنان، وبحلول 2015، كان عدد اللاجئين السوريين في لبنان يتجاوز 1.2، وفي الوقت نفسه، امتدت الحرب عسكريا إلى الداخل اللبناني عبر تفجيرات في الضاحية الجنوبية، ومعارك عرسال عام 2014، وتوترات حدودية دائمة، ووجد لبنان نفسه أسيرا لزلزال سوري لا يملك أدوات احتوائه.
سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول 2024 فتح الباب أمام مرحلة غامضة، فلبنان الذي كان يتعامل مع دمشق بوصفها مركز القرار، يواجه اليوم سوريا جديدة غير مكتملة الملامح، والقضية المركزية صارت عودة اللاجئين، فوفق تقديرات 2025، مازال نحو 900 ألف لاجئ سوري في لبنان.
في المقابل، عاد البعد الجيوسياسي ليطل برأسه: النزاعات الحدودية، ومحاولات ترسيم الحدود البحرية التي تكشف عن ثروات غازية، وموقع سوريا الجديد بين محاور إقليمية متنازعة، ولبنان يقف أمام معضلة فهو لا يستطيع فك ارتباطه بسوريا، لكنه يخشى إعادة إنتاج الهيمنة السابقة.