لم يأتِ إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن خطته للسلام في غزة على ذكر سوريا بشكل مباشر، لكنه أضاء جانبا حاسماً في طريقة التفكير التي تبنّتها الإدارة الأمريكية في التعامل مع أزمات الشرق الأوسط.
في ظل الحروب التي تعصف بالمنطقة، تتعامل واشنطن مع الجغرافيا باعتبارها مجالا مفتوحاً للاستثمار السياسي، بينما تُركت التراكمات السياسية والتاريخية دون معالجة جذرية.
إنه تصور يشي بأن السلام، كما يُرسم أمريكيا، ليس مشروعاً استراتيجياً بقدر ما هو منصة عابرة للاستعراض السياسي، حيث تُستبدل الحلول الدائمة بتسويات مؤقتة تتيح التكيف مع العنف بدلاً من تجاوزه.
خطة ترامب في غزة: استثمار في الجغرافيا بدل إنهاء الصراع
تبدو خطة ترامب للسلام في غزة، من الناحية التقنية، شديدة العمومية وافتقرت إلى التفاصيل الجوهرية، فبُنيت على فكرتين أساسيتين: الأولى إنشاء منطقة استثمار في غزة، حيث يُعاد تأهيل مسرح الحرب ليصبح ساحة مشاريع اقتصادية، فقدّمت الخطة مقترحات اقتصادية غامضة تصلح لاحتواء مؤقت، لكنها لا ترسم مسارا واضحا لإنهاء “الاشتباك”، وهو ما حوّلها إلى مبادرة شكلية تفتقر إلى مضمون استراتيجي.
الفكرة الثانية، أي المرحلة الانتقالية، افتقرت إلى مؤشرات واضحة حول مدتها أو أهدافها، الأمر الذي حوّلها عملياً إلى إطار مؤقت يرحّل الأزمة من دون تقديم ضمانات لإنهاء الصراع أو معالجة أسبابه العميقة.
سعت واشنطن إلى تحويل غزة إلى مختبر لتجارب سياسية واقتصادية دولية، دون أن تكترث بالجذور العميقة للصراع، وبدت وكأنها تختبر قدرتها على إنتاج “وهم الاستقرار”، واللافت أن هذه المقاربة لا تختلف كثيراً عن الطريقة التي تعاملت بها الإدارة نفسها مع الملف السوري، حيث طغى منطق الاستعراض السياسي على البحث الجاد في تسويات عادلة ودائمة.
دمشق وواشنطن: عروض سياسية بلا مضمون
في السياق السوري، لم يكن ملف العلاقات مع واشنطن سوى سلسلة من العروض السياسية التي افتقرت إلى أدوات التنفيذ، ففي الرياض، طرح ترامب إشارة إلى إمكانية رفع العقوبات عن دمشق، رغم أنه لا يمتلك الصلاحية الدستورية لإلغاء “قانون قيصر” الذي يُعد الأداة الأشد تأثيراً على الاقتصاد السوري.
بقي العرض السياسي في إطار الاستعراض، بينما استمر الضغط الاقتصادي والسياسي على السلطة في دمشق بلا تغيير حقيقي، وحتى المبعوث الأمريكي توماس براك، الذي حظي باهتمام في كافة محطات الأزمة السورية، لم يتمكن من صياغة معادلات جديدة؛ إذ سرعان ما تلاشت مبادراته تاركة خلفها خطوط غير مكتملة لم تلامس جوهر الأزمة.
المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية: سلام على مقاس تل أبيب
خطة ترامب لم تخفِ حقيقة مركزية، فالطرف الوحيد الذي خرج بضمانات واضحة كان “إسرائيل“، فخلال المفاوضات السورية – “الإسرائيلية”، ظهر المبعوث الأمريكي أشبه بعرّاب لاتفاق لا يكتمل، يتحدث عن “تفاهمات” في وقت كانت الخرائط العسكرية في الجنوب السوري تُعاد رسمها.
السلطة في دمشق كانت تسعى إلى إعادة تفعيل اتفاقية فصل القوات لعام 1974، على أمل تثبيت معادلة أمنية جديدة، أما إسرائيل فكانت ترسم حدود نفوذ أوسع، فيما بدا أن واشنطن تساير هذا المسار عبر تقديم “تنظيرات” عن طبيعة شعوب المنطقة بوصفها “قبائل” قابلة للتطويع، في هذه اللحظة، انكشف جوهر الرؤية الأمريكية: سلامٌ لا يعني التوازن بل تكريس التفوق الإسرائيلي.
الرؤية الأمريكية: إدارة الوقائع بدل صناعة المستقبل
إذا جاز لنا تسمية ما تطرحه واشنطن بـ”الرؤية”، فهي تقوم على مبدأ تمكين الوقائع، وتثبيت ما هو قائم دون استراتيجية لليوم التالي، فالإدارة الأمريكية لا تقدم خارطة طريق، بل مجرد اختبار لقدرتها على التحرك خارج الحسابات التقليدية، تاركة خلفها فراغات استراتيجية ضخمة.
هذه المقاربة تقوم على فرضية أن “السلام” مجرد إعلان متفائل عن فرص اقتصادية، بينما يتم تجاهل الأثمان الباهظة لموجات العنف التي لا تنفك تتجدد، والنتيجة أن دوائر الحرب تبدو حتمية، في حين يُسَوّق الخطاب الأمريكي لمشهد رفاهٍ مزيّف تعيشه فقط المجتمعات التي اندمجت مع الإيقاع الأمريكي.
وهم أمريكي قديم: شطب قرن من التاريخ
الاستخفاف بطبيعة صراعات المنطقة لم يبدأ مع غزة ولا مع سوريا، بل ظهر كآلية لإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي تسعى إلى القفز فوق قرن من الحروب والاتفاقيات والخيبات المتكررة، فواشنطن تتعامل مع الشرق الأوسط كورقة في دفتر المحاسبة، حيث يُختزل الصراع العربي – الإسرائيلي في خسارة أو ربح تجاري، لا في توازن استراتيجي يمسّ أمن شعوب بأكملها.
التجربة الأمريكية مع سوريا تكشف هذا التناقض بوضوح، فما يُطرح كحلول سياسية ليس سوى انعكاس لطريقة تفكير ترامب في ملف غزة، عبر إنه منطق استثماري – تجريبي، يتجاهل أن الصراع رسّخ نسقا ثقافيا وسياسيا لا يمكن مسحه بقرار رئاسي أو بمبادرة اقتصادية عابرة.
سوريا بين استحقاقات الداخل ورهانات الخارج
إن نصيب سوريا من هذا “السلام الأمريكي” يبقى ملتبسا، فبينما تواصل دمشق محاولاتها لاستعادة زمام المبادرة إقليميا، تُترك ملفاتها الكبرى من صراعها مع “إسرائيل” والعقوبات وإعادة الإعمار وعودة اللاجئين؛ رهينة التوازنات الدولية، وواشنطن، في المقابل، تبدو أكثر اهتماما بإدارة الملفات لا بحلها، وهو ما يجعل سوريا حاضرة كملف مؤجل في كل مبادرة أمريكية تخص المنطقة.
هذا الوضع يُبقي السلطة في دمشق أمام معادلة شديدة الصعوبة، فكيف يمكن التعامل مع مبادرات لا تحمل ضمانات، ومع “سلام” يُصاغ وفق إيقاع “إسرائيلي” – أمريكي لا يلحظ مصالحها الاستراتيجية؟
سلام بلا سلام
ـ«خطة ترامب للسلام» هي نموذج مكثف لفلسفة أمريكية أوسع، فإدارة الأزمات من دون معالجتها، وصناعة أوهام الاستقرار من دون الاعتراف بجذور العنف، وبالنسبة لسوريا، فإن هذا المسار لا يعدو كونه محاولة جديدة لإبقائها في موقع الانتظار، تحت وطأة عقوبات خانقة، ومن دون أفق سياسي واضح.
نصيب سوريا من السلام رهنا بتوازنات إقليمية تتجاوز قدرة السلطة الحالية على التأثير المباشر، وبمقاربة أمريكية تُعيد تعريف الصراع العربي – “الإسرائيلي” وفق لغة “الأرباح والخسائر”، لا وفق ميزان العدالة والحقوق، وهنا تكمن المفارقة الكبرى، فالسلام الأمريكي يمنح استثمارات، لكنه يترك خلفه جغرافيا مثقلة بالعنف، بلا ضمانات، وبلا مستقبل.