التجنيس السياسي في سوريا ما بعد الأسد: شرعية الدولة وحدود الولاء

في أغسطس 2025، كشفت وكالة رويترز عن خطوة رمزية محفوفة بالرهانات الاستراتيجية، وتجلت بالتماس تقدم به مقاتلون أجانب إلى الحكومة السورية الجديدة التي تقودها هيئة تحرير الشام، يطالبون فيه بمنحهم الجنسية السورية.

في الظاهر تبدو القضية إدارية أو إنسانية؛ لكنها في جوهرها اختبار مبكر لمدى قدرة النظام الجديد على التوفيق بين إرث العنف العابر للحدود ومتطلبات بناء دولة تسعى لاكتساب الاعتراف.

ملف المقاتلين الأجانب شكل عقدة في النزاع السوري، فهم تدفقوا منذ 2012 من نحو عشرين دولة تحت شعارات عقائدية، وأصبحوا جزءا من المشهد العسكري، وأحيانا من البنية القيادية ذاتها في بعض الفصائل الجهادية،غير أن سقوط النظام السابق، وتحوّل هيئة تحرير الشام من فصيل مسلح إلى سلطة أمر واقع، أعاد فتح الأسئلة المؤجلة حول مستقبل هؤلاء الغرباء.

بين الولاء والانتماء: رمزية الجنسية

إن المطالبة بالجنسية من قبل المقاتلين الأجانب لا يمكن قراءتها كإجراء إداري أو قانوني، بل خطوة تنطوي على أبعاد سياسية ورمزية عميقة، فهؤلاء القادمون من خارج البلاد لا يطالبون بمجرد أوراق ثبوتية أو تسهيلات معيشية، بل يسعون إلى تثبيت مكانتهم ضمن البنية الوطنية الجديدة، وطلبهم يعكس رغبة في الانتقال من حالة “الضيف المؤقت” أو “المجاهد الغريب” إلى صفة “المواطن”، بما تحمله من اعتراف رسمي واندماج ضمن مجتمع ما بعد الحرب.

إن قبول هذا الطلب يحمل دلالة رمزية خطيرة فهو يعني أن النظام الجديد في سوريا مستعد لمنح الجنسية، التي يفترض أنها عقد مدني بين الفرد والدولة، لأشخاص قاتلوا تحت رايات عقائدية عابرة للحدود، وكثير منهم تبنّى في مراحل سابقة خطابا رافضًا لفكرة الدولة الوطنية ذاتها، وهذه الخطوة، إذا ما تمت، ستعيد رسم حدود الهوية السورية، ليس على أساس الجغرافيا أو المواطنة التقليدية، بل على أساس الانتماء العقائدي أو الولاء السياسي، وهو ما يمثّل تحولا جذريا في تعريف الانتماء والمواطنة في سوريا ما بعد الحرب.

الداخل المنقسم: ذاكرة الصراع ورفض الدمج

هذا المسار محفوف بالعقبات، فداخليا يثير منح الجنسية لهؤلاء المقاتلين حفيظة فئات واسعة من السوريين، خاصة في المناطق التي عانت من هيمنة الفصائل المتشددة، والمجتمعات المحلية التي خضعت، أو حتى اصطدمت، مع حكم هيئة تحرير الشام، تنظر إلى هذا النوع من التجنيس كنوع من “مكافأة على التطرف”.

أما خارجيا، فإن أي خطوة في هذا الاتجاه ستُعد مثيرة للجدل، فمنح الجنسية لمقاتلين أجانب يعقّد مساعي النظام الجديد لنيل الاعتراف الدولي، فالدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، لا تزال تنظر إلى هيئة تحرير الشام ككيان إرهابي، وأي إجراء قانوني لوجود هؤلاء المقاتلين سيُفسَّر كمؤشر على استمرار المشروع الجهادي بصيغة معدّلة.

تثبيت النفوذ أم ترسيخ الانقسام؟

من وجهة نظر سياسية بحتة، يمكن النظر إلى التجنيس باعتباره أداة استراتيجية لتثبيت النفوذ وترسيخ الولاء. فالنظام الجديد، في لحظة هشة من إعادة تشكيل شرعيته، يحتاج إلى قاعدة دعم موثوقة لا تملك بدائل. وهؤلاء القادمون من دون أوطان، الذين جُرّدوا من جنسياتهم أو يواجهون ملاحقات قانونية في بلدانهم الأصلية، ينظرون إلى الجنسية السورية كملاذ أخير، يمنحهم حماية قانونية ووجودا معترفا به في المجال العام، في هذا السياق، يصبح التجنيس أشبه بعقد إذعان سياسي: مقابل الأمن والاعتراف، يُطلب الولاء والدفاع.

هذا الارتباط القسري بين البقاء والولاء يعيد إلى الأذهان ممارسات مألوفة في التاريخ السياسي السوري، حيث استُخدمت الجنسية لأغراض تتجاوز بعدها القانوني، لتصبح أداة للضبط السياسي والاجتماعي، والمثال الأبرز على ذلك هو الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 في محافظة الحسكة، الذي جُرّد بموجبه عشرات آلاف الأكراد من جنسيتهم، في سابقة كشفت هشاشة مفهوم المواطنة أمام ضرورات الضبط الديمغرافي والسياسي، واليوم، وإن تغيّرت القوى المسيطرة، فإن المنطق ذاته يتكرر، حيث الجنسية لا تُمنح بوصفها حقا مدنيا، بل كأداة لإعادة تشكيل الخريطة السكانية على أسس الولاء والانتماء السياسي.

مشروع الدولة: غموض الاستراتيجية

لكن السؤال الأهم: ما شكل الدولة التي تريد هيئة تحرير الشام بناءها؟

حتى الآن، لا تزال معالم المشروع السياسي لهيئة تحرير الشام غامضة، رغم سيطرتها الكاملة على البلاد ومحاولاتها إعطاء طابع مؤسساتي لحكمها، حيث ظهرت بعض المؤشرات البراغماتية، كالسعي لإعادة تشكيل الإدارة العامة، وعلاقات دولية وإقليمية أمنت اعترافا بحكمها، لكن البنية العقائدية للهيئة، المستندة إلى أصول سلفية جهادية ونشأتها كامتداد لتنظيم القاعدة، تطرح تحديات جدية أمام تحوّلها إلى كيان وطني جامع يتجاوز الولاء الأيديولوجي.

إن أي خطوة لمنح الجنسية على أساس الانتماء العقائدي أو المشاركة القتالية في صفوف الهيئة، لا على أساس تعاقد مدني يضمن المساواة والحقوق، من شأنها أن تعمّق الانقسام داخل المجتمع السوري، وتغذّي روايات الإقصاء والتهميش بدل أن تسهم في بناء عقد اجتماعي جديد.

أزمة الإطار القانوني

في السياق القانوني، يفتح الالتماس أزمة مختلفة، فما هو الإطار القانوني الذي تستند إليه هذه الحكومة في منح الجنسية؟ هل ستُستدعى قوانين النظام السابق أم سيتم اعتماد دستور جديد؟ وهل ستُمنح الجنسية بشكل انتقائي، أم وفق معايير شفافة؟ إن غياب المؤسسات الدستورية المستقرة يجعل من كل قرار سيادي مسألة خلافية تنسف ما تبقى من شرعية مأمولة.

أما على مستوى العلاقات الدولية، فإن أي خطوة لتجنيس مقاتلين أجانب ستُقرأ باعتبارها استفزازا مباشرا لدول مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، التي طالما حذّرت من السماح بعودة هؤلاء إلى الفعل العام في سوريا، كما أن روسيا والصين، تنظران بقلق إلى أي محاولة إيجاد مخرج قانوني لوجود مقاتلين متشددين.

مفترق طريق: من السلفية إلى الدولة؟

من جهة أخرى، فإن المطالبة بالجنسية تمثل لحظة فاصلة لهيئة تحرير الشام، فإما أن تذهب نحو مزيد من المأسسة، والقطع مع إرث السلفية الجهادية، أو أن تبقى رهينة ماضيها، فتكرر مسار الحركات الإسلامية التي فشلت في التحوّل إلى نظم حكم مسؤولة.

إن قرار منح الجنسية لهؤلاء الأجانب سيكون أكثر من مجرد إجراء إداري؛ سيكون مرآة لمشروع سياسي بأكمله: هل سوريا الجديدة وطن لكل أبنائها، أم مجرد غنيمة للفائزين؟

في النهاية، سيكون على السلطة القائمة أن تختار بين هوية جامعة وهوية مغلقة، وكل ما عدا ذلك مجرد تفاصيل.

إن نجاح سوريا في العبور إلى مرحلة الاستقرار لن يتحقق إلا بإجابات واضحة عن أسئلة الهوية والشرعية والمواطنة، تبدأ من ملفات شائكة كقضية التجنيس، لكنها لا تنتهي عندها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *