دولة تبحث عن مركز ثقل
لم تخرج سوريا من الحرب بقدر ما أعادت إنتاجها في شكل بطيء، فبدلَ جبهات القتال، ترسم البلاد اليوم خطوط سلطة غامضة تمتد بين نهر الفرات ودمشق، وبين “قوات سوريا الديمقراطية” التي تمسك بالشرق، و”الحكومة الانتقالية” في العاصمة برئاسة أحمد الشرّع، التي تتحدث باسم الدولة لكنها لم تتمكن بعد من استعادتها.
المفارقة أن هذه الحكومة وُلدت بوصفها جسر عبور نحو الدولة الجديدة، لكنها تبدو اليوم عالقة بين ماض لم يُدفن ومستقبل لم يُولد، بينما تقف “قسد” كقوة أمر واقع، تمتلك الشرعية الميدانية وإن افتقدت الشرعية السياسية.
بين هذين القطبين، تُصاغ معادلة سوريا الراهنة؛ مركز رسمي هشّ مقابل هامش فعليّ منضبط، وجغرافيا تحكمها الضرورة لا القانون.
دمشق الانتقالية… سلطة بوجه بيروقراطي وجسد مثقوب
تبدو الحكومة الانتقالية إعادة رسم للمؤسسات الرسمية القديمة عبر وزارات تعمل، وبرلمان تحت الإنشاء، وأجهزة أمنية بشكل جديد، لكن من حيث المضمون، لا تزال السلطة في دمشق مركزا بلا جاذبية.
أحمد الشرع، المعروف باسمه الحركي “أبو محمد الجولاني”، يتولى رئاسة الحكومة الانتقالية بعد مسار طويل بدأ بقيادته لتنظيم “جبهة النصرة”، فرع القاعدة في بلاد الشام، الذي تحوّل لاحقا إلى “هيئة تحرير الشام”،
ورغم محاولته إعادة تقديم نفسه كقائد سياسي يسعى لبناء نموذج حوكمة جديد في سوريا، فإن معظم الوزارات السيادية — الدفاع، الداخلية، العدل، والخارجية — لا تزال بيد شخصيات ترتبط مباشرة بالهيئة، والمدرجة هي الأخرى على قوائم الإرهاب الدولية، وتعاني الحكومة من ثلاث علل بنيوية:
- غياب القاعدة الاجتماعية، فلم تنجح في بناء عقد اجتماعي جديد، والقواعد الشعبية التي كانت يوما تحت قبضة النظام لم تعد تؤمن بقدرة المركز على الحماية أو الإنقاذ.
- الارتهان للتحالفات الخارجية حيث تتعايش في دمشق ثلاث إرادات: تركية تسعى إلى تثبيت النفوذ شمالا، و”إسرائيلية” تعمل على في الجنوب السوري، وغربية–عربية تراقب عن بعد.
النتيجة سلطة لا تملك قرارها الكامل، بل تقتات على التوازن بين القوى الراعية. - بيروقراطية دون إصلاح، حيث تعمل مؤسسات الدولة الجديدة في دمشق كما لو أنها استعارت جلد الدولة الحديثة، لكنها احتفظت بعقل التنظيم؛ فالقوانين والموظفون والبنية الأمنية باقية على حالها، لكن فوقها اليوم ظلّ شيخٍ أو أميرٍ يضفي على الجهاز الإداري طابعا لاهوتيً يحدّ من مدنيّته.
- في الجوهر، هي حكومة انتقالية لم تنتقل، فتتحدث لغة التغيير، لكنها تتحرك داخل الإطار القديم،
وبين خطاب الدولة واستمرار منطق “الوصاية”، تآكلت قدرتها على الإقناع، خصوصا في المناطق الواقعة خارج سيطرتها المباشرة.
قسد… براغماتية البقاء
في الجهة المقابلة، تمثل “قوات سوريا الديمقراطية” نقيضا بنيويا، فهي قوة تشكلت من القاع، ومن رحم الفوضى، فتعلمت بسرعة قوانين البقاء.
تطورت من فصيل كردي محلي إلى هيكل عسكري–مدني متماسك نسبياً، يضم اليوم ما يقارب 60 ألف مقاتل، ويتكئ على موارد النفط والزراعة شرق الفرات، وتدير قسد شبكة من المؤسسات المدنية، فهناك مجالس محلية، وقوات أمن داخلي (الأسايش)، ومحاكم محلية تعمل وفق قوانين مختلطة بين العرف والعصر.
صحيح أن قسد لم تتحول إلى مشروع وطني شامل، لكنها باتت نموذجا إداريا عمليا في بلد فقد مركزه الإداري، فبينما تتحدث السلطة في دمشق عن “إعادة الإعمار”، تبني قسد طرقا ومدارس ومشافي بميزانيات محلية،
وبينما تصدر الحكومة مراسيم تنظيمية، تفرض قسد ضرائب وتوزع الرواتب.
ولا تخلو التجربة لقسد من مأزقها، فهي قوة محلية مقبولة أميركيا ومرفوضة تركيا، وتتحدث عن اللامركزية لكنها تحتكر القرار، وتتطلع إلى الاندماج في الدولة وهي في الوقت نفسه تحصّن استقلالها الذاتي، وتسير بخطى متناقضة، لكنها حتى الآن تسير.
اتفاق الضرورة – هدنة بين خريطة الواقع وخريطة النوايا
اتفاق آذار 2025 بين قسد والحكومة الانتقالية كان لحظة إدراك متبادل بأن لا أحد قادر على إلغاء الآخر،
والسلطة في دمشق لا تستطيع استعادة الشرق بالقوة، وقسد لا تستطيع الصمود دون غطاء سياسي رسمي، ومن هذه المفارقة ولد اتفاق يقوم على ثلاث ركائز:
- الاعتراف المتبادل بالوظيفة، لا بالسيادة.
- دمج تدريجي للمؤسسات المدنية والأمنية شرق الفرات ضمن إطار الدولة.
- ضمانات للكرد والعرب في التمثيل الثقافي والسياسي في الدستور المقبل.
لكن الاتفاق، الذي بدا حينها إنجازا، تحوّل سريعا إلى اختبارٍ لصبر الطرفين، ففي دمشق، تعاطت البيروقراطية مع الأمر كـ”تنازل مؤقت يجب احتواؤه”، لا كفرصة لبناء عقد جديد، وفي القامشلي، تعاملت قسد مع البنود السياسية باعتبارها تكتيك تأجيل، لا خطوة اندماج حقيقي.
النتيجة تعايش قلق، يشبه “التوازن المعلق”، حيث يتكئ كل طرف على خوفه من انهيار الآخر.
القوة الصلبة والقوة الرمزية
في ميزان القوة الميداني، تمتلك قسد اليد العليا شرق الفرات:
- جيش ميداني منظم ومتحرك.
- موارد اقتصادية ذاتية.
- ولاءات محلية مستقرة نسبيا.
أما الحكومة الانتقالية، فتعتمد على جيش أعيد تشكيله قوامه نحو 80 ألف عنصر، موزعين بين وحدات نظامية ومليشيات محلية، ويمسك قادة الميدان القادمون من هيئة تحرير الشام بمفاصل الأجهزة، فغدت السلطة الجديدة تعبّر عن إرادة السلاح أكثر مما تعبّر عن إرادة الدولة.
لكن تفوقها في الشكل لا يترجم نفوذا على الأرض، إذ تظل الشرعية السياسية بلا أدوات تنفيذ.
في الجانب الاقتصادي، المفارقة أوضح: السلطة في دمشق تمتلك “العملة”، لكن قسد تمتلك “الثروة”، فالأولى تدير مصرفا مركزيا مفلسا، والثانية تبيع النفط بعملات مختلفة عبر وسطاء محليين.
وحين تتحدث الحكومة عن إعادة توزيع الموارد، يبدو حديثها أشبه بمناشدة أخلاقية أكثر منه سياسة دولة.
جغرافيا ما بعد المركز
لا يمكن فهم التوازن السوري الجديد دون النظر إلى الجغرافيا، فالفرات لم يعد نهرا فقط، بل حدا سياسيا بين نظامين للسلطة:
- غربه تراتبية وولاء، شرقه تشاركية وهشاشة.
- الشرق، الدولة مشروع إداري؛ في الغرب، الدولة فكرة رمزية.
كلاهما عاجز عن اختراق الآخر، لأن الجغرافيا السورية لم تعد وحدة عضوية، بل فسيفساء مصالح محلية متشابكة.
وما يربط هذه القطع ليس الدولة، بل العسكري الذي تملؤه التفاهمات، وفراغ سياسي يتم تعويضه بالمؤتمرات، وفراغ اقتصادي تسده شبكات التهريب.
إلى أين تتجه المعادلة؟
التحليل الراهن يشير إلى ثلاثة مسارات محتملة حتى عام 2027:
- الاندماج الهادئ (60%)
يستمر تطبيق اتفاق 2025 جزئيا، فيتحول ذراع قسد العسكري إلى “فيلق الشرق” ضمن الجيش الوطني الجديد، بينما يحتفظ الكرد والإدارة الذاتية بسلطات محلية في التعليم والثقافة.
هذا المسار واقعي لأنه يمنح الطرفين مخرجا من الجمود دون إعلان خاسر. - اللامركزية المقنّعة 30%
تتبلور صيغة من الحكم الذاتي الموسع، أقرب إلى فيدرالية الأمر الواقع، تتيح للأقاليم إدارة مواردها مع بقاء السيادة الاسمية لسلطة دمشق، لكنه سيناريو هشّ، لأن المركز لم يتعلم بعد فنون التنازل. - الانهيار الإداري 10%
في حال تفاقم الانقسام داخل الحكومة الانتقالية أو انسحاب أميركي مفاجئ، تعود خطوط النار القديمة.
غير أن الإرهاق المجتمعي يجعل من العودة إلى الحرب احتمالا غير مغر لأحد.
نقد بنيوي للحكومة الانتقالية
إن إخفاق الحكومة الانتقالية لا يكمن في ضعفها العسكري، بل في عجزها عن إنتاج سردية وطنية جديدة،
فهي تكرر خطاب “استعادة الدولة” لكنها لا تطرح سؤال: أي دولة؟
- تتحدث عن الدستور، لكنها تتجنب نقاش السلطة.
- تفتح باب “المصالحة”، لكنها تتغول في الطرح الطائفي والفئوي.
- تمارس السياسة بعقلية الطوارئ، وتتصرف كأن الزمن تجمّد عند لحظة انتقالية لا تنتهي.
في المقابل، قسد أكثر براغماتية لكنها أقل طموحا؛ تعرف حدودها الجغرافية وتعمل ضمنها، ولأنها لا تعد بأكثر مما تستطيع، فإنها تبدو، للمفارقة، أكثر اتساقا مع الواقع من حكومة تُحاول تمثيل دولة لم تعد موجودة.
ما بعد الدولة، وما قبل الاستقرار
سوريا 2025 ليست بلدا يسير نحو الاستقرار، بل نحو توازن مفتوح النهاية، فالسلطة المركزية تتآكل من الداخل، والهامش يتحول إلى بديل إداري، فيما المجتمع المنهك يبحث عن أي نظام يوفّر له الحد الأدنى من الأمن والخبز.
القوة في دمشق رمزية، وفي الشرق عملية؛ الأولى تتحدث بـ”مزاعم الوحدة الوطنية”، والثانية باسم “العيش المشترك”، ولا أحد الطرفين قادر على حسم المشهد.
لكن الأرجح أن مستقبل سوريا سيتقرر لا في قاعات المؤتمرات، بل في المسافة بين مركزٍ يشيخ وهامشٍ يتعلم أن يحكم نفسه.
وربما حين يُكتب تاريخ هذه المرحلة بعد عقد، سيُقال إن “الحكومة الانتقالية” لم تكن سوى فصل رمزي في عملية تفكيك الدولة القديمة، وإن “قسد” رغم كل تناقضاتها كانت أول من أدرك أن البقاء في سوريا الجديدة لن يكون لمن يملك السلاح، بل لمن يتقن إدارة الفوضى.