على الطرقات التي تربط بين مدن الساحل والداخل، وفي الأزقة الضيقة للحواضر القديمة، يمتزج غبار الصيف برائحة الدم، فخلال أقل من عشرة أيام، سقط سبعة وعشرون شخصا في سلسلة عمليات قتل انتقامي في سوريا وتصفيات طائفية، معظمها خارج أي إطار قانوني، في مشهد يعكس انهيار العقد الاجتماعي السوري.
إنه ليس العنف الصاخب لميادين المعارك أو جبهات الحصار، بل عنف صامت، متنقل، يختار ضحاياه بدقة، ويتسلل إلى الحياة اليومية دون إعلان حرب، كأنها حرب خفية داخل الحرب، حيث تتداخل الحسابات الشخصية مع خطوط الانقسام الطائفي والسياسي.
القتل في صمت المدن
في حلب، المدينة التي كانت يوما مركزا للتجارة والصناعة، أصبح حي الفردوس في حلب يعرف القتل كما يعرف مواعيد أسواقه؛ حادثة بعد أخرى، وفي أوقات باتت مألوفة للسكان.
رجل متهم بـ”التشبيح” قُتل داخل متجره، بلا محاكمة أو حتى رسالة واضحة من قاتليه، وبعدها بساعات، في حي كرم الميسر، سقط مدني برصاص مجهولين، بينما جُرح آخر كان يقف بجواره، والهدف شاب يُعرف بانتمائه إلى المعارضة السابقة، لكن الرصاص لم يميز بينه وبين عابر الطريق.
إلى الجنوب، في النبك، تحولت لحظة عابرة على حاجز أمني إلى مشهد دموي؛ سائق سيارة، برفقة زوجته وأطفاله، لم يتوقف عند إشارة دورية أمنية، وبعد لحظات، اخترقت الرصاصات الزجاج، فقتل السائق أمام عائلته.
في السيدة زينب، استُدرج سائق تاكسي من بلدة الزهراء بريف حلب، وضُرب حتى الموت، في جريمة تحمل بصمة الانتقام الطائفي، وتعيد للأذهان أحداثا مشابهة في بدايات الحرب.
وفي حمص، المدينة لم يعد العنف حكرا على خطوط التماس القديمة، فطفلتان قُتلتا، وثالثة جُرحت، في هجوم على منزل عائلة بريف المدينة، بعد سرقة دراجة نارية، والمهاجمان ألقيا قنبلة يدوية ثم أطلقا النار على من في المنزل، في حادثة تلخص قسوة زمنٍ لم يعد يعرف خطوطا حمراء.
خريطة الدم
بين الأول والتاسع من أغسطس، توزع الضحايا على سبع محافظات:
- حلب: 8 قتلى.
- حمص:6 قتلى (بينهم طفلان)
- ريف دمشق:5 قتلى.
- حماة: 3 قتلى.
- اللاذقية: قتيلان.
- دمشق: قتيلان.
- طرطوس: قتيلة واحدة.
ليست هذه الأرقام مجرد إحصاءات، بل خارطة لأرخبيل من النقاط الساخنة، حيث تلتقي الانقسامات الطائفية مع حسابات الماضي السياسي، وحيث السلاح في يد الجميع، لكن القانون في يد أحد.

الذاكرة التي لم تندمل
كما في البلقان التسعينيات أو العراق بعد 2003، يتغذى العنف السوري الحالي على ذاكرة مليئة برغبة الانتقام، وكل حادثة قتل تحمل في داخلها تاريخا شخصيا وجماعيا، يُستدعى في لحظة الرصاص، فالقتيل ليس بالضرورة مقاتل سابق في جيش، أو معارض قديم، أو مجرد شخص وُلد في المكان “الخطأ” بالنسبة لقاتله.
المجتمعات الخارجة من صراعات طويلة لا تعود إلى “السلم” فجأة، بل تدخل مرحلة من الحروب الصغيرة المتنقلة، حيث تتلاشى الحدود بين الجريمة المنظمة والثأر السياسي، وهذا ما يحدث في سوريا اليوم؛ حروب بلا جبهات، لكن بخطوط تماس متحركة داخل الأزقة والمزارع والمقاهي.
الفراغ الأمني كبيئة للعنف
المخيف أن هذه الجرائم تجري في وضح النهار أحيانا، وفي مناطق كان يُفترض أنها تحت سيطرة أمنية كاملة، فلا فرق بين دمشق وريفها، أو بين القرى في اللاذقية وبلدات الغاب في حماة، أو بين الأحياء في طرطوس وأحياء حلب الشرقية.
الفراغ الأمني هنا ليس غيابا تاما للسلطة، بل حضورها المشوّه، فالسلطات محلية أو ميدانية تتدخل حين تريد، وتتجاهل حين يكون الصمت أكثر فائدة لها أو أقل تكلفة.
هذا النمط من السلطة الجزئية يخلق بيئة مثالية لدوائر الانتقام، لأن غياب الردع القانوني يعني أن الحسابات القديمة تجد فرصتها لتصفية نفسها من جديد، ومع انتشار السلاح الفردي، تصبح الجريمة مسألة قرار لحظي، لا تحتاج سوى لذريعة.
تآكل العقد الاجتماعي
على المستوى الأعمق، تمثل هذه الموجة من التصفيات مرحلة متقدمة من تآكل العقد الاجتماعي السوري. فالانتماء إلى الطائفة أو القرية أو الشبكة العائلية أصبح الضمانة الوحيدة للبقاء، في وقت فقدت فيه الدولة كمؤسسة جامعة قدرتها على حماية الجميع بشكل متساو.
هذا الانكفاء نحو الهويات الصغرى يعيد تشكيل الجغرافيا السياسية الداخلية لسوريا، فالمدن الساحلية، مثلا، تغلق على نفسها أكثر من أي وقت مضى، بينما تتشكل في الأطراف شبكات حماية محلية تتطور مستقبلاً إلى سلطات أمر واقع.
انعكاسات إقليمية
سوريا ليست جزيرة معزولة، فالحدود مع لبنان، حيث تنتشر الميليشيات العابرة للطوائف، تظل مفتوحة أمام تبادل الرسائل الدموية، والحدود مع العراق وتركيا، التي كانت شرايين للتجارة والتهريب، يمكن أن تتحول بسهولة إلى ممرات لفرق الاغتيال أو تجارة السلاح، وكما أظهرت تجارب اليمن وليبيا، فإن الفوضى الداخلية في بلد ذي موقع استراتيجي سرعان ما تكتسب أبعادا إقليمية، ويعاد توظيفها في صراعات أوسع.
الإفلات من العقاب: البنزين الذي يغذي النار
غياب المحاسبة ليس مجرد تقصير إداري أو ضعف قضائي، بل هو جزء من بيئة سياسية ترى في هذا النوع من العنف وسيلة للسيطرة غير المباشرة، فالخوف المتبادل بين الطوائف والمناطق يجعل الجميع في حالة تأهب، ويحدّ من قدرتهم على تشكيل أي جبهة موحدة ضد السلطات القائمة.
لكن لهذا النهج ثمن باهظ، فمع كل جريمة بلا عقاب، يتراجع الأمل في بناء سلم أهلي حقيقي، وكما في تجارب أميركا اللاتينية في السبعينيات والثمانينيات، يتحول العنف إلى جزء من النسيج اليومي، وتصبح الجريمة مجرد خبر آخر في النشرات، حتى وإن كانت تحمل في طياتها انهيار مجتمع بأكمله.
نحو مستقبل غامض
التاريخ يعلمنا أن مثل هذه الموجات من التصفيات لا تنتهي من تلقاء نفسها، فإما أن تُكسر بدخول طرف قوي قادر على فرض القانون بعدالة، أو أن تتطور إلى حرب أهلية شاملة، ولو بعد سنوات، وفي الحالة السورية، لا يبدو أن الطرف القوي موجود أو راغب في التدخل.
الأخطر أن الأطفال الذين يكبرون في هذا المناخ يتشربون منطق الثأر كجزء من تعريفهم للعدالة، ما يعني أن دائرة العنف مرشحة للاستمرار جيلاً بعد جيل.
اليوم، تتقاطع على الأرض السورية ثلاث طبقات من العنف، إرث الحرب الكبرى بين السلطة والميليشيات المتمردة، ودوائر الانتقام الطائفي بين المجتمعات المحلية، والجريمة المنظمة التي وجدت في الفوضى غطاء مثاليا، والنتيجة مشهد معقد لا يمكن قراءته فقط بلغة السياسة أو الأمن، بل بلغة التاريخ العميق والجغرافيا الحية حيث بلد يتأرجح بين ماض طحنته الحرب، وحاضرٍ عاجز عن إنتاج أي ضمان للمستقبل.
إذا كانت الحرب السورية الأولى قسمت البلاد جغرافيا، فإن هذه الموجة من العنف تفتتها اجتماعيا ونفسيا، وهو تفكك أصعب بكثير من إعادة إعمار أي مدينة مدمرة.
مقالة مهمة واقعية ومؤثرة تمسح الحياة الإجتماعية والسياسية بسورية الواقعة على فالق الحرب الأهلية التي تبدو اليوم كحرب باردة لا تلبث ان تتقد ويستعر لهيبها . والشعوب التي لاتستفيد من تجاربها وتحارب الغير مكتوب لها قدر كارثي لامفر منه .
نعم متشائم ولا شيء يدعو للتفاؤل، فالعالم برمته يشارك بصمته او بفتنته أو بتدخله السافر بصناعة الموت المتنقل بسورية..!
هل العالم دوماً هذا وجهه الحقيقي، أم حين وقعت النعجة كثرت سكاكينها…!!؟