في الوقت الذي تتجه فيه الأنظار إلى محاولات إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية في الشرق الأوسط، تعود الساحة السورية لتذكّرنا أن المسألة الداخلية ما تزال جرحا مفتوحا، وأن الدولة التي وُصفت لعقود بـ”الأمنية” هي هوية السلطة الجديدة.
خلال شهر تشرين الثاني الجاري، شهدت مناطق سيطرة الحكومة الانتقالية حملة اعتقالات واسعة النطاق طالت أطباء ومدنيين وأشخاصا من خلفيات طائفية متباينة، في مشهد يؤكد أن الخوف هو لغة السلطة.
تحت السطح: من الأمن إلى الريبة
تبدو الاعتقالات التي شملت 34 شخصا، بينهم أطباء عملوا في المشافي العسكرية التابعة للنظام السابق، جزءا من إجراءات “احترازية” تتذرع بها أجهزة الأمن للحفاظ على الاستقرار، غير أن التوقيت، والجهات المستهدفة، وطبيعة المناطق التي شهدت المداهمات، توحي بأن ثمة ما هو أعمق من مجرد “تحر أمني”.
في اللاذقية وطرطوس وريف دمشق وحمص، جرت الاعتقالات في الغالب دون مذكرات رسمية أو توجيه تهم واضحة، ما يعكس اتساع دائرة الريبة لتشمل مناطق كانت تُعدّ في قلب النسيج الإداري والاجتماعي للدولة، ومفارقة استهداف بيئات طالما اعتُبرت مستقرة نسبيا، تفتح الباب أمام تأويلات تتجاوز الإطار الأمني إلى فضاء سياسي واجتماعي أوسع، حيث يبدو أن السلطة تسعى إلى إعادة ضبط موازين النفوذ والثقة داخل بنيتها المحلية.
ما يجري اليوم يبدو جزءا من محاولة لإعادة ترتيب موازين الولاء داخل مؤسسات الدولة وأجهزتها بعد التحوّلات الكبرى التي شهدتها البلاد خلال العام الماضي، والتي بدّلت مواقع السلطة ومصادر القرار على نحو عميق.
ففي ظل ضعف الثقة العامة بالمؤسسات، وتنازع الصلاحيات بين قوى مختلفة داخل المشهد السياسي والأمني، تسعى الجهات الحاكمة إلى ترميم تماسكها عبر توسيع الرقابة وإعادة ضبط المجال العام، فحين تتراجع قدرة الدولة على الحكم بالقانون والمؤسسات، تميل بطبيعة الحال إلى إدارة المجتمع بمنطق الارتياب الدائم.
الأطباء في قفص الاتهام
المثير في موجة الاعتقالات الأخيرة ليس فقط عددها، بل طبيعة الفئات المستهدفة، فأن يُعتقل طبيب داخل عيادته في القرداحة دون تهمة معلنة، يشي بأن الحدود التقليدية بين الفئات المحمية والمستهدفة لم تعد واضحة كما في السابق.
شملت الاعتقالات أطباء من ذوي الخبرة الطويلة في القطاعين العسكري والمدني، بعضهم متقاعد أو يعاني من أمراض مزمنة، مثل الطبيب “فائز ح”، الذي يعاني من تشمّع كبدي، وآخرون أوقفوا أثناء مزاولتهم عملهم دون مذكرات رسمية أو توضيحات.
تدل هذه الحالات على اتساع دائرة الشك داخل المنظومة الإدارية والأمنية، حيث لم تعد الثقة المهنية أو التاريخ الوظيفي كافيين لضمان الحماية، فالمناخ الذي تشكّل بعد التحولات السياسية الأخيرة ما يزال مضطربا، وتتقاطع فيه الولاءات وتتنازع مراكز القرار، بينما تُستخدم الإجراءات الأمنية كوسيلة لفرض النظام وإعادة ترتيب الداخل.
تاريخيا، لم يكن الأطباء في سوريا طرفا في الصراعات السياسية، لكنهم يجدون أنفسهم اليوم وسط فراغ مؤسسي تتداخل فيه سلطتان؛ أمنية حذرة لا تتسامح، وإدارية عاجزة عن التفسير، وهذا التحول الرمزي في استهداف أصحاب المهن الحيوية يعكس انتقال القلق من الهامش إلى المركز، ومن الخصومة السياسية إلى الريبة العامة.
الخطف كوجه آخر للفوضى
في ظل تصاعد الاعتقالات، عادت ظاهرة الخطف لتثير رعبا قديما؛ مسلحون مجهولون يقتحمون منازل، وأشخاص يُقتادون إلى مصير مجهول، دون أن تتبنّى أي جهة رسمية المسؤولية أو تبدي اهتماما جديا بالكشف عن الفاعلين، ففي ريف حماة واللاذقية، تكررت هذه الحوادث بما يشبه النمط المنهجي، وكأن “الاختفاء” أصبح أداة موازية للحكم.
إن هذا الانفلات لا يعكس ضعف السلطة الأمنية، بقدر ما يعكس تشظيها، فحين تتعدد الفصائل وتتقاطع الصلاحيات، تتحول السلطة إلى طيف من القوى المتنازعة، لكل منها منطقها الخاص ومصالحها الصغيرة، بينما يُترك المواطن في منطقة رمادية لا يستطيع فيها تمييز المداهم الرسمي من المجرم المقنّع.
الطائفية المعكوسة: حين يبتلع النظام أبناءه
ما يستوقف المراقب أن الاعتقالات لم تقتصر على فئة أو طائفة بعينها، ففي قرية “أكراد الداسنية” بريف حمص، جرى اعتقال عشرة مدنيين من أبناء الطائفة العلوية، وفي “بنمرة” بريف طرطوس، أوقف 13 شخصا من أبناء الطائفة السنية كانوا لجأوا إلى المنطقة بعد سقوط النظام، وهذا التنوع في هوية المعتقلين يشي بأن الانقسام الطائفي، بدأ يتحول إلى عبء على الدولة نفسها.
إنها مرحلة جديدة تراجع فيها الاصطفاف التقليدي الذي استُخدم كدرع سياسي أو اجتماعي، إذ لم تعد الانتماءات الطائفية أو الجغرافية تضمن موقعا آمنا داخل المشهد العام، فالسلطة التي تُدار اليوم بمنطق الارتياب لا تفرّق بين الفئات، بل ترى في الجميع احتمالا للخطر، وفي الصمت نفسه مصدرا للقلق، وهذا التحوّل يشير إلى أن البنية الأمنية، التي طالما وُظّفت لضبط المجتمع، بدأت تنغلق على ذاتها وتعمل لحماية وجودها الداخلي أكثر مما تعمل لضمان الاستقرار العام.
بين القانون والسلطة: فراغ العدالة
من أبرز سمات هذه الموجة من الاعتقالات غياب أي إجراء قانوني واضح، فلا مذكرات توقيف، ولا لوائح اتهام، ولا بيانات رسمية، وفي المقابل، يسود صمت رسمي يزيد من معاناة الأهالي الذين لا يعرفون شيئا عن أماكن احتجاز أبنائهم أو ظروفهم الصحية.
هذا الغياب الممنهج للشفافية لا يمكن تفسيره بمجرد “سوء الإدارة” لأنه يعكس سياسة مقصودة، تجعل من الغموض وسيلة للسيطرة، فحين لا يعرف الناس حدود الخطر، يعيشون في خوف دائم، والخوف هو أكثر أدوات السلطة فعالية في بلد خرج لتوّه من حرب مدمرة.
غياب العدالة يخلق فراغا قانونيا يبتلع الدولة من الداخل، وعندما تصبح “السلطة الأمنية” هي المرجعية الوحيدة، فإنها تُضعف المؤسسات الأخرى، من القضاء إلى الصحة، وتجعل من الاستقرار مجرد وهم إحصائي.
الذاكرة المرهقة: ما بعد الحرب ليس سلامًا
يبدو أن سوريا دخلت مرحلة ما بعد الحرب، لكنها لم تدخل بعد مرحلة السلم، فالحروب لا تنتهي بالهدنة، بل بإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، ففي الحالة السورية، لم تُنجز هذه المصالحة، بل جرى ترحيلها من الميدان العسكري إلى الميدان الأمني.
تعيش البلاد اليوم حالة “سلام أمني” هش، تُضبط فيه الحركة السياسية والاجتماعية لا بالقانون، بل بالخوف من القانون، وهذه الحالة تشبه ما يسميه علماء الاجتماع “الدولة الباردة” التي لا تسمح بالحياة الكاملة.
ما الذي تقوله هذه الاعتقالات عن مستقبل الحكم في سوريا؟
ربما لا يمكن قراءة حملة تشرين الثاني بمعزل عن التوازنات الجديدة التي تحاول الحكومة الانتقالية فرضها في مناطقها، فالسلطة التي خرجت من رحم النزاع تحمل إرثين متناقضين؛ إرث الدولة المركزية القديمة، وإرث الفصائلية التي رافقت سنوات الحرب، وما يجري اليوم هو صراع بين هذين الإرثين، بين من يريد دولة تستند إلى المؤسسات، ومن يتمسك بدولة تستند إلى الأجهزة.
الاعتقالات، في هذا السياق، ليست مجرد رد فعل أمني، بل هي وسيلة لإعادة ترسيم الخريطة الداخلية للنفوذ، وتأكيد أن الأمن ما زال هو المحور الذي تدور حوله السلطة.
لكنّ المفارقة الكبرى أن الإفراط في الأمن لا ينتج أمانا، بل يولّد خوفا متبادلا بين السلطة والمجتمع، ويحوّل الدولة إلى كيان يطارد ذاته، ومع مرور الوقت، يتآكل ما تبقى من ثقة الناس، وتتحول البلاد إلى فضاء من الريبة المتبادلة.
الطريق إلى الاستقرار يمر عبر الشفافية
تقول التجارب الحديثة من أمريكا اللاتينية إلى أوروبا الشرقية أن المجتمعات الخارجة من الحرب لا تستقر إلا عندما تستعيد العدالة معناها، العدالة ليست شعارا أخلاقيا، بل شرطا سياسيا لبناء دولة قابلة للحياة.
هذا الشرط غائب في سوريا، فبدلا من بناء الثقة بين المواطن والسلطة، تُعمّق الاعتقالات المتكررة الجرح المفتوح، وتُبقي البلاد أسيرة حلقة مفرغة من الخوف والإنكار.
الاعتقال بوصفه نظام حكم: القبضة الأمنية في سوريا
تحليل مرئي لموجة الاعتقالات الأخيرة وآليات السيطرة الأمنية في المناطق الخاضعة للحكومة الانتقالية
توزيع الاعتقالات حسب المحافظة
الفئات المستهدفة في الاعتقالات
الطوائف المتأثرة بالاعتقالات
تطور استراتيجيات السيطرة الأمنية
الدولة الأمنية التقليدية
الاعتماد على أجهزة أمنية مركزية مع خطوط حمراء واضحة للمعارضة السياسية
الأمن كأداة حرب
تحول الأجهزة الأمنية إلى أدوات قمع مكثف مع توسيع دائرة الاستهداف لتشمل المناطق الموالية سابقاً
تشظي السلطة الأمنية
تعدد الفصائل والجهات الأمنية مع تزايد عمليات الخطف والاختفاء القسري
مرحلة ما بعد الحرب
تحول من القتال الميداني إلى إدارة المجتمع بمنطق الارتياب الدائم مع استهداف فئات كانت محمية سابقاً
موجة الاعتقالات الأخيرة
استهداف الأطباء والمدنيين من مختلف الطوائف دون تهم واضحة أو إجراءات قانونية
أبرز الاستنتاجات من تحليل الاعتقالات
الانتقال من الخصومة السياسية إلى الريبة العامة
لم تعد الانتماءات الطائفية أو الجغرافية تضمن موقعاً آمناً داخل المشهد العام
الطائفية المعكوسة
السلطة التي تُدار بمنطق الارتياب لا تفرّق بين الفئات، بل ترى في الجميع احتمالاً للخطر
الغموض كأداة سيطرة
غياب المذكرات الرسمية والتهم الواضحة يخلق حالة من الخوف الدائم بين المدنيين
الأطباء في قفص الاتهام
استهداف أصحاب المهن الحيوية يعكس انتقال القلق من الهامش إلى المركز
الخطف كوجه آخر للفوضى
الاختفاء القسري أصبح أداة موازية للحكم في ظل تشظي السلطة الأمنية
الطريق إلى الاستقرار يمر عبر الشفافية
التجارب الدولية تظهر أن المجتمعات الخارجة من الحرب لا تستقر إلا عندما تستعيد العدالة معناها. في سوريا، بدلاً من بناء الثقة بين المواطن والسلطة، تُعمّق الاعتقالات المتكررة الجرح المفتوح، وتُبقي البلاد أسيرة حلقة مفرغة من الخوف والإنكار.
العدالة ليست شعاراً أخلاقياً، بل شرطاً سياسياً لبناء دولة قابلة للحياة


وضع مخزي لبلد كسورية