أيلول 2025 في سوريا: 315 ضحية بين مدنيين وعسكريين

في أيلول 2025، انضم 315 ضحية جديدة إلى سجل الدم السوري، وهي حصيلة تكشف نمطا ثابتا، وتبدو باردة في ظاهرها، لكنها في جوهرها مثقلة بذاكرة أكثر من عشرة أشهر من انهيار النظام السابق، وما تكشفه هذه الحصيلة ليس مجرد حجم الخسائر البشرية، بل شكلا متكررا من العنف المستدام، الذي يبدو أنه فقد طابعه الاستثنائي وتحول إلى جزء من البنية اليومية للحياة السورية.

الأكثر قسوة أن نحو 86 في المئة من هؤلاء الضحايا كانوا من المدنيين رجالا ونساء، وأطفالا، ولم يكونوا في جبهات المواجهة، لكنهم سقطوا برصاص عشوائي، وبتفجيرات وعبوات ناسفة، وبمخلفات حرب قديمة، أو في جرائم قتل متصاعدة باتت تعكس انهيارا أمنيا واجتماعيا، فهي ليست “خسائر جانبية” لصراع مسلح؛ بل تعبير عن انزياح بنية الحرب ذاتها لتلتهم المجتمع في عمقه.

أرقام لا تتوقف عند العدّ

عند تفكيك بيانات الشهر الماضي، يتضح أن الرصاص العشوائي والاقتتال وحده حصد أرواح 43 مدنيا، بينهم ثمانية أطفال، والمخلفات الحربية قتلت 23 شخصا، نصفهم تقريباً من الأطفال، أما الإعدامات الميدانية فأزهقت أرواح 39 بينهم خمس نساء.

جرائم القتل الفردية والجماعية كانت الأكثر حضورا، بـ 55 ضحية بينهم أطفال ونساء، كل هذه الفئات تتجاوز المعنى العسكري المباشر، لتشير إلى نمط مركب من العنف يتغذى على انهيار القانون، وغياب الدولة، وتفتت البنى الاجتماعية.

هناك ضحايا سقطوا في السجون تحت التعذيب، وآخرون برصاص قوات تركية على الحدود، أو على يد قوات محلية كـ”قسد، أما فئة الضحايا غير المدنيين، وهم 44 شخصا، فتوزعوا بين مقاتلين في فصائل مختلفة، وعناصر من تنظيم الدولة، وأفراد من قوات سوريا الديمقراطية، والرقم متدنّ نسبيا إذا ما قورن بالضحايا المدنيين، لكنه يكشف أن خطوط المواجهة العسكرية لم تكن مشتعلة بذات الكثافة، وأن العنف انتقل أكثر إلى الحيز المدني.

المدنيون: الضحية الدائمة

بقراءة المعطيات من الأشهر السابقة يمكن ملاحظة ثبات في أعداد الضحايا تتراوح بين 280 و320 شهريا، وهذا الاستقرار الرقمي لا يعني هدوء سياسيا أو أمنيا؛ بل يعكس نمطا من “العنف المستدام” الذي يستنزف المجتمع دون أن يحسم الصراع، فهو عنف منخفض الشدة لكنه طويل الأمد، يذكّر بنماذج أخرى في التاريخ حيث استحال النزاع إلى حالة مزمنة، كالصومال في التسعينيات أو لبنان في سنوات الحرب الأهلية الممتدة.

المفارقة أن المدنيين، الذين يُفترض أنهم خارج دوائر الاستهداف المباشر، يشكّلون النسبة الأكبر من الضحايا، ما يعكس ما يسميه علماء النزاعات “تفكك العقد الاجتماعي”، وهي لحظة تتحلل فيها سلطة الدولة المركزية، وتتفكك الأعراف الضابطة للعنف، فيصبح المدنيون عرضة للقتل على يد جميع الأطراف، وأحياناً من داخل مجتمعهم ذاته.

عنف متعدد المصادر

الأرقام تكشف أن العنف لم يعد حكرا على مواجهة ثنائية بين نظام ومعارضة كما كان قبل سقوط نظام البعث، أو بين فصائل متصارعة؛ بل صار موزعاً بين أطراف عدة، فهناك رصاص مجهول، وجرائم قتل لا تنتمي لأي سردية عسكرية، ومخلفات حرب تحولت إلى ألغام صامتة تحصد الأطفال، وهذه التنوع في مصادر القتل لن تعد خاضعة لمعادلة واضحة يمكن عبرها “وقف إطلاق النار”، لأن القتل لم يعد مشروطا بالمعارك التقليدية او بين أطراف محددة، بل صار جزءا من نسيج الحياة اليومية.

إلى جانب ذلك، ثمة “عنف مؤسساتي” واضح عبر إعدامات ميدانية منظمة، وتعذيب داخل السجون، وقمع ممنهج، وهذه ليست أفعالاً فردية عابرة بل سياسات مقصودة تهدف إلى السيطرة عبر الرعب، هنا يظهر البعد الأكثر خطورة؛ العنف كأداة حكم، لا كنتاج صراع.

التوقعات: استقرار قاتل

محاولة استشراف الأشهر المقبلة تكشف مفارقة مؤلمة، باستخدام نماذج إحصائية مثل ARIMA، يمكن رصد اتجاه عام مستقر؛ عدد الضحايا سيبقى في حدود 300 قتيل شهريا خلال الأشهر الستة المقبلة، أي أن المجتمع السوري محكوم باستقرار دموي؛ لا تصعيد شامل، ولا انحسار حقيقي.

هذا “الاستقرار القاتل” يعني أن الأطراف الدولية والإقليمية تمكنت من تغيير معادلة الصراع في سوريا من اشتباك بين طرفين، إلى نزيف بطيء مستمر، ينهك المجتمع ويفرّغ البلاد من طاقاتها البشرية دون أن يخلق ديناميكية سياسية جديدة.

الأطفال: مؤشر المستقبل

من بين 271 مدنيا سقطوا في أيلول، كان هناك 32 طفلا، وهذا الرقم ليس تفصيلا ثانويا لأنه مؤشر على المستقبل، فكل طفل يُقتل اليوم هو استثمار في دورة جديدة من العنف غدا، من خلال أسر فجعت بأطفالها، وذاكرة جماعية مثقلة بالمعاناة، وجيل ينشأ على اليُتم والخسارة.

في دراسات النزاعات، يُعتبر ارتفاع نسبة الأطفال بين الضحايا إشارة خطيرة إلى دخول المجتمع في “حلقة مفرغة” من العنف، حيث تتحول الحرب من نزاع على السلطة إلى نمط حياة متوارث.

البعد الاجتماعي: جرائم القتل كمؤشر انهيار

الأرقام الخاصة بجرائم القتل التي بلغت 55 ضحية في شهر واحد، تكشف عن انهيار أمني واجتماعي يتجاوز العنف الذي ترتب عن انهيار النظام السابق، وتندرج ضمن سياق تفكك القانون وغياب السلطة الرادعة، فهي انعكاس لحالة انعدام الثقة، وانتشار السلاح، وتفتت القيم الجماعية.

إذا استمر هذا الاتجاه، فإن المجتمع السوري مهدد بـ”فوضى مسلحة” على النمط الليبي أو الأفغاني، حيث لا يبقى للنزاع مركز واحد يمكن التفاوض معه أو ضبطه.

المجتمع الدولي: الحاضر الغائب

إن سقوط النظام السابق ورغم تشكّل سلطة جديدة، فإن المسارات الدولية لم تنجح بعد في وضع حدّ للنزيف السوري، فشكل الصراع في سورية تغير، لكن العنف  أخد منحى آخر ولم ينطفئ؛ بل أعاد إنتاج نفسه في مستويات أقل كثافة وأكثر استدامة، محمولا هذه المرة على تناقضات السلطة الناشئة وصراعات النفوذ الإقليمي، والسؤال اليوم: هل تسعى القوى الدولية فعلا إلى إنهاء دوامة الحرب، أم أنها تفضّل إبقاء سوريا في حالة من “التوازن الدموي” الذي يضمن لكل طرف الحفاظ على نصيبه من النفوذ؟

نحو أي مستقبل؟

المشهد السوري في أيلول 2025 يمكن تلخيصه في معادلة مركّبة:

  • انتقال سياسي هشّ لم يكتمل بعد، ما يجعل البلاد عرضة لتجاذبات داخلية وخارجية.
  • نزيف مدني مستمر رغم تراجع حدة المعارك، نتيجة تفكك البنية الأمنية والاجتماعية.
  • دينامية سياسية ناشئة تسعى إلى تثبيت حضورها، لكنها ما زالت عاجزة عن كسر الحلقة المفرغة من العنف والانقسام.”

إذا استمر هذا الاتجاه، فإن المستقبل القريب لن يحمل مفاجآت كبيرة، فأعداد الضحايا ستبقى ضمن المتوسط الحالي، والأطفال والنساء سيظلون الفئة الأكثر تضرراً، والجرائم الفردية ستواصل تفكيك النسيج الاجتماعي، لكن الخطر الحقيقي يكمن في المستقبل الأبعد، فهناك جيل كامل نشأ في ظل العنف المستدام، ما يجعل أي محاولة لإعادة بناء الدولة أكثر صعوبة، ويحوّل الحرب إلى نمط حياة متوارث لا مجرد فصل في التاريخ.

الأرقام ليست مجرد إحصاءات، إنها خريطة دم، تكشف أين يقف المجتمع السوري اليوم، فهو على حافة توازن قاتل لا هو سلام ولا هو حرب شاملة، ما لم تُبذل جهود جدية وجذرية فإن 315 ضحية في أيلول 2025 سيبقون مجرد رقم آخر في سلسلة لا تنتهي، تتكرر شهراً بعد شهر، حتى يتحول الموت إلى القاعدة، والحياة إلى الاستثناء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *