لم تعلن “إسرائيل” حربا على سوريا في أي لحظة من العام الممتد بين كانون الأول 2024 وتشرين الأول 2025، لكن الميدان السوري كان يعيش ما يشبه حربا كاملة بلا جبهات ولا بيانات رسمية ولا صور من قلب المعارك.
إنها حرب “الصمت العملياتي” التي أعادت رسم حدود القوة والنفوذ في الجنوب السوري، وأدخلت الصراع السوري – الإسرائيلي طورا جديدا من السيطرة الميدانية الهادئة والممنهجة.
البيانات التي جُمعت من مصادر ميدانية متقاطعة، توثق117 اعتداء “إسرائيليا“ خلال هذه الفترة؛ 72 غارة جوية وصاروخية، 38 توغلا بريا، و7 حالات تمركز ميداني مؤقت أو ما يرقى إلى “احتلال محلي”.
الأرقام باردة، لكنها تُفصح عن تحول حادّ في العقيدة “الإسرائيلية” تجاه سوريا من الردع إلى التحكم، ومن الضربة إلى السيطرة.
من الاستهداف الوقائي إلى الضبط الجغرافي
قبل كانون الأول 2024، كانت “إسرائيل” تتعامل مع الساحة السورية باعتبارها امتدادا “خطرا” للنفوذ في “محور المقاومة”، وضرباتها الجوية المتكررة كانت تنتمي إلى ما تسميه تل أبيب “العمليات الوقائية”؛ تدمير شحنات سلاح، أو استهداف مواقع ومراكز أبحاث عسكرية.
لكن ما إن انهار النظام السوري القديم، وتصدّعت منظومة القيادة في دمشق، حتى تغيّر المنطق كله.
منذ8 كانون الأول 2024، وهو اليوم الذي بدأ فيه التصعيد الأكبر، تحوّلت الضربات من ردود تكتيكية إلى حملة منهجية، ففي أقل من شهر، تم توثيق أكثر من300 غارة جوية.
مطارات دمشق والكسوة والمزة ومواقع الدفاع الجوي في طرطوس وحمص واللاذقية كانت أهدافا يومية تقريبا، و”إسرائيل” لم تعد تهاجم “تهديدا إيرانيا” حسب زعمها، بل تضرب البنية العسكرية السورية نفسها، مكوّنة بذلك “بيئة عمل” جديدة، تتصرّف فيها كقوة سيادة فعلية فوق سماء سوريا.
الجنوب السوري: المختبر الميداني للعقيدة الجديدة
في الجنوب، وتحديدا في محافظتي القنيطرة ودرعا، أخذت الحرب الصامتة شكلا مغايرا. فابتداء من ربيع 2025، ظهرت مؤشرات على عودة “إسرائيل” إلى الأرض السورية بعد أكثر من خمسة عقود على اتفاق فصل القوات لعام 1974.
توغلات صغيرة، تبدأ بدوريات مدرعة تعبر أمتارا معدودة داخل الحدود، ثم حواجز مؤقتة في قرى مثل بئر عجم وأوفانيا وصيدا الحانوت، وصولا إلى احتلال منازل محلية واستخدامها كمقرات استطلاع لساعات أو أيام.
هذا التدرّج لا يشير إلى اندفاع عسكري، بل إلى تجريب منهجي لمعادلة جديدة؛ السيطرة على الأرض بلا إعلان، وتثبيت حقائق ميدانية بلا مواجهة مباشرة.
بين أيلول وتشرين الأول 2025 وحدها تم توثيق أكثر من 36 توغلا بريا، في نمط متواتر يشبه الدوريات الحدودية داخل “منطقة عازلة غير معلنة”، وبالمعنى العسكري، هذا ليس مجرد خرق، بل إلغاء عملي لاتفاق فضّ الاشتباك الذي شكّل أحد آخر الأعمدة المتبقية من منظومة الردع القديمة في الجولان.
دمشق والوسط والساحل: ضرب العمق
في المقابل، واصلت إسرائيل قصفها العميق لمراكز الثقل السوري، من غارة كفرسوسة على مبنى الاستخبارات الجوية في أيار، إلى قصف وزارة الدفاع في تموز، ثم استهداف مطار دمشق الدولي ومطار المزة ومواقع في طرطوس واللاذقية وحمص، كانت الخريطة كلها مفتوحة أمام الطيران “الإسرائيلي”.
يتضح من تحليل التوزيع الجغرافي أن “إسرائيل” وسّعت نطاق العمل إلى خمسة أقاليم رئيسية، لكنها حافظت على تمايز واضح بين أهدافها:
- الجنوب للسيطرة الميدانية.
- الوسط والساحل للردع الاستراتيجي.
بهذا التقسيم حوّلت “إسرائيل” كامل الجغرافيا السورية إلى نظام مراقبة واستهداف متعدد الطبقات، من الجوّ والأرض معا، ما يشبه إلى حد بعيد نموذجها الذي اتبعته في جنوب لبنان خلال ثمانينيات القرن الماضي قبل إنشاء “المنطقة الأمنية”.
عقيدة “الضغط الدائم دون حرب”
في التحليل السلوكي، يتضح أن ما يجري ليس مجرد حملة غارات، بل تحول بنيوي في “العقيدة الإسرائيلية” تجاه سوريا.
تعتمد تل أبيب الآن على ثلاث ركائز عملياتية:
- الضغط المتدرج من خلال ضربات متواترة صغيرة، تخلق إحساسا بالعجز المستمر لدى الخصم من دون الوصول إلى حرب شاملة.
- الاختراق الميداني المحدود عبر توغلات تكتيكية قصيرة المدى، تسمح بجمع معلومات استخبارية دقيقة وتثبيت وجود رمزي.
- الإنكار الاستراتيجي بعدم الاعتراف الرسمي بأي نشاط بري، والإبقاء على الغموض القانوني لتجنّب الإدانة الدولية.
هذه العقيدة تمنح “إسرائيل” ما تسميه داخل دوائرها الأمنية “حرية حركة كاملة في بيئة مشوشة”، وهي البيئة التي تمثلها سوريا بعد 2024: دولة منقسمة سياسيا، وموزعة عسكريا، ومحاطة بفراغ سيادي في الجنوب.
البيانات تكشف: أين تتحرك “إسرائيل”؟
عند تحليل الجدول الكامل للحوادث، تبرز ملامح دقيقة عن “خريطة النية الإسرائيلية”:
- 41 حادثة في القنيطرة كلها تقريباً عمليات توغل أو احتلال محلي.
- 28 في درعا بمزيج من القصف والاستطلاع الأرضي.
- 18 في السويداءمعظمها غارات بدعوى “حماية الدروز”.
- 16 في دمشق وريفها باستهداف البنى العليا للدولة.
- 14 في حمص واللاذقية وطرطوس بضربات موجهة إلى الدفاعات الجوية.
هذا التركّز في الجنوب (74% من إجمالي النشاط) لا يترك مجالا للصدفة، فـ”إسرائيل” تتحرك في منطقة تعتبرها العمق الجيوسياسي لأمن الجولان، وتهدف إلى إعادة هندستها ميدانيا بما يخدم مفهوم “الحدود القابلة للحماية”.
الاحتمالات المستقبلية: من “التوغّل” إلى “التموضع”
إذا استمر الفراغ الأمني والسياسي الحالي في سوريا، فالمعطيات الميدانية تشير إلى احتمال مرتفع بأن تتحوّل التوغلات الإسرائيلية إلى تموضع دائم محدود خلال عام 2026، والمقصود بذلك ليس احتلالا صريحا، بل إنشاء نقاط مراقبة واستطلاع دائمة تحت ذريعة منع تسلّل جماعات مسلحة أو نشاط إيراني.
سيُكرَّس هذا التموضع بمرور الوقت إلى “واقع فعلي” تتعامل معه القوى الدولية بصمت، كما حدث في الجنوب اللبناني في الفترة 1985–2000.
في المقابل، لا تظهر في الأفق أي مؤشرات على ردّ سوري ميداني حقيقي، فالبيانات لا تسجل أي مواجهة مباشرة بين القوات السورية و”الإسرائيلية” طوال الفترة المدروسة، وأقصى الردود اقتصرت على بيانات تنديد رسمية قليلة.
أما روسيا فبقي دورها في حدود الضغط الدبلوماسي، ما عزّز لدى “إسرائيل” الإحساس بأن الجنوب السوري بات ساحة خالية من الردع.
صمت ما قبل التثبيت
ما يحدث في سوريا منذ ديسمبر 2024 ليس تصعيدا طارئا، بل إعادة تصميم ميدانية بطيئة ومنهجية، تُدار بأدوات استخبارية وجوية مدروسة.
الجنوب السوري، الممتد من القنيطرة إلى درعا، صار ميدان اختبار لـ”نموذج إسرائيلي” جديد في إدارة الحدود:
منطقة رخوة، غير معلنة كمنطقة احتلال، لكنها تعمل تحت إشراف ميداني مباشر.
البيانات لا تكذب، فكل 10 أيام تقريبا، هناك غارة أو توغل.
كل شهر، هناك نقطة جديدة تتغيّر فيها قواعد السيطرة.
وفي نهاية كل فصل، تظهر خرائط ميدانية جديدة تضع حدودا غير مرئية، تقول للعالم إن “إسرائيل” لم تعد تكتفي بمراقبة الجبهة السورية بل تديرها.
الحرب الصامتة في سوريا: كانون الأول 2024 – تشرين الأول 2025
إجمالي الاعتداءات الإسرائيلية
الغارات الجوية والصاروخية
التوغلات البرية
حالات الاحتلال المحلي
توزيع الاعتداءات حسب النوع
التوزيع الجغرافي للاعتداءات
التركيز الجغرافي للعمليات
- القنيطرة: 41 حادثة (جميعها تقريبًا عمليات توغل أو احتلال محلي)
- درعا: 28 حادثة (مزيج من القصف والاستطلاع الأرضي)
- السويداء: 18 حادثة (معظمها غارات بدعوى “حماية الدروز”)
- دمشق وريفها: 16 حادثة (باستهداف البنى العليا للدولة)
- حمص واللاذقية وطرطوس: 14 حادثة (بضربات موجهة إلى الدفاعات الجوية)
أبرز التحولات في العقيدة الإسرائيلية
- التحول من الردع إلى التحكم، ومن الضربة إلى السيطرة
- توسيع نطاق العمل إلى خمسة أقاليم رئيسية مع تمايز واضح بين الأهداف
- الجنوب للسيطرة الميدانية، والوسط والساحل للردع الاستراتيجي
- تركّز 74% من النشاط الإسرائيلي في الجنوب السوري
- تحوّل التوغلات إلى حملة منهجية بدلاً من ردود تكتيكية


كلام دقيق وموجع