شهدت مختلف المحافظات السورية في شهر آب 2025، سقوط 71 شخصا، بينهم أربعة أطفال، في سلسلة من حوادث القتل والتصفية الجسدية التي اتسمت بخلفيات طائفية وانتقامية، وأخرى ذات طبيعة سياسية أو أمنية مرتبطة بالانتماءات السابقة للضحايا.
هذا العدد اللافت يسلط الضوء على مشهد أمني مأزوم، تتداخل فيه الدوافع الشخصية مع الحسابات الجماعية، في سياق يفتقر إلى سلطة رادعة أو مؤسسات قضائية فاعلة.
الحصيلة ليست مجرد أرقام صادمة، بل تعكس استمرار العنف الأهلي بأشكال متحورة، تنسج خيوطها في الأحياء والقرى بعيدا عن خطوط المواجهة التقليدية، وهي مؤشر على أن الحرب السورية تحولت إلى صراع متشعب يغذيه الانتقام والانقسام الطائفي، في ظل عجز الدولة عن إعادة بناء عقد اجتماعي يوحد مكوناتها.
من الحرب المفتوحة إلى حرب الظل
تحوّل الصراع السوري في الأشهر القليلة الماضية نتيجة ظهور نظام سياسي بخلفية جهادية من حروب جبهات واسعة إلى حرب ظل، حيث بات العنف يتخذ شكل عمليات اغتيال فردية، وتصفيات ميدانية، واعتداءات انتقائية على أساس الانتماء الطائفي أو السياسي، وهذه التحولات تتفق مع ما تصفه الدراسات المقارنة بـ”التحول من النزاع المسلح عالي الكثافة إلى العنف منخفض الكثافة”، وهي مرحلة غالباً ما تكون أكثر صعوبة في الاحتواء، لأن الفاعلين يصبحون أكثر تشتتا وأقل قابلية للتعقب.
في شهر آب، ظهر هذا النمط بوضوح، فكان هناك استهدافات متفرقة في دمشق وريفها، واغتيالات لمدنيين وعسكريين سابقين في حلب وحماة وحمص، وجرائم طائفية في اللاذقية وطرطوس، واللافت أن غياب السلطة القضائية المستقلة وهيمنة منطق الإفلات من العقاب منح الفاعلين مساحة واسعة لتنفيذ جرائمهم دون خوف من الملاحقة.
الرسم التفاعلي
البعد الطائفي: تصعيد خطير
من بين 71 ضحية في آب، قُتل 32 على الأقل بدافع الانتماء الطائفي، وتتركز النسبة الأكبر من هذه الحوادث في محافظة حمص (20 حالة طائفية)، تليها حماة (6)، ثم اللاذقية (3)، ودمشق وريفها (3).
هذا النمط من العنف يعكس ما تشير إليه دراسات النزاعات حول مفهوم “الحدود غير القابلة للتقسيم”، أي المناطق أو الهويات التي يُنظر إليها باعتبارها جوهرية ولا يمكن التنازل عنها أو المساومة عليها، في الحالة السورية، يبرز الانتماء الطائفي كأحد هذه الحدود، إذ يُستخدم كمعيار لتبرير الثأر أو التصفية السياسية، ما يرسخ دائرة مغلقة من الانتقام المتبادل يصعب كسرها.
جغرافيا العنف: قراءة في الخارطة
توزيع العنف على المحافظات يكشف عن ديناميات محلية متباينة:
- حمص: البؤرة الأكثر سخونة (22 قتيلا)، معظمهم في عمليات تصفية طائفية أو انتقامية، والقرى المختلطة أو القريبة من خطوط تماس قديمة شهدت ارتفاعا في حوادث الاقتحام المسلح والقتل داخل المنازل.
- حماة: ثاني أعلى رقم (15 قتيلا)، مع بروز ريف مصياف وسهل الغاب كمناطق عالية الخطورة، حيث تستهدف الهجمات أبناء الطائفة العلوية بشكل خاص.
- حلب: 12 قتيلا، في سلسلة اغتيالات متصلة باستهداف شخصيات مدنية وعسكرية سابقة، ما يعكس استمرار العنف السياسي.
- دمشق وريفها: 15 قتيلا، مع حضور واضح لحوادث الخطف والإعدام الميداني.
- اللاذقية: أربع جرائم، بينها حالات قتل بوحشية مع تمثيل بالجثث، تعكس رسائل ردع أو انتقام.
- المحافظات الأخرى (درعا، دير الزور، إدلب) شهدت حوادث معزولة لكنها ذات رمزية سياسية أو طائفية.
استهدافات منظمة أم فوضى منفلتة؟
تحليل تسلسل الحوادث وأنماطها يشير إلى مزيج من الاستهدافات المنظمة والعنف العشوائي، ففي بعض الحالات، يتضح وجود تخطيط مسبق، كعمليات الاغتيال بحق قياديين سابقين في “الدفاع الوطني” أو الفرقة 25، أو قتل شخصيات متهمة بـ”التشبيح” بعد استدراجها، في المقابل، هناك جرائم ذات طبيعة فوضوية، كإطلاق النار العشوائي على المنازل أو إلقاء قنابل يدوية في الأحياء السكنية.
هذا المزيج يعزز فرضية أن العنف الأهلي في سوريا اليوم لم يعد حكرا على جماعة واحدة، بل بات “سوقا مفتوحة” للعنف، حيث يمكن لفاعلين متعددين، من الميليشيات إلى عصابات الجريمة المنظمة، استغلال الانفلات الأمني لتحقيق أهداف انتقامية أو مادية.
أثر العنف على النسيج الاجتماعي
العنف الأهلي الطائفي لا يقتصر على كونه نتيجة للنزاع، بل هو أيضا مُغذّ له، فكل حادثة قتل بدوافع طائفية تُعمّق الانقسام العمودي في المجتمع، وتقلّص فرص إعادة بناء الثقة بين المكونات.
في آب، سُجّلت عدة حوادث ذات أثر مضاعف مثل قتل أطفال داخل منازلهم، واغتيال شخصيات دينية أو اجتماعية بارزة، وتمثيل بالجثث، وهذه الأفعال تحمل رسائل ترهيب إلى جماعات بأكملها، لا إلى الضحايا الفرديين فقط.
كما أن الإفلات من العقاب يعزز مناخ الخوف ويشجع على الثأر الذاتي، ما يضعف أي إمكانية لعملية عدالة انتقالية مستقبلية.
الانعكاسات السياسية
من منظور السياسة المقارنة، يمكن القول إن سوريا تقف أمام سيناريوهين متعاكسين:
- الانزلاق إلى صراع أهلي أعمق: إذا استمرت وتيرة العنف الطائفي والانتقامي، فسنشهد إعادة تشكل خطوط تماس مناطقية وطائفية، خصوصا في المناطق المختلطة مثل حمص وحماة.
- إمكانية الاحتواء عبر مبادرات محلية: هناك فرص ضيقة أمام جهود الوساطة القبلية أو المجتمعية، إذا ما ترافقت مع دعم دولي لضبط السلاح، وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، وضمان مساءلة عادلة.
غير أن المؤشرات الميدانية في آب تميل نحو السيناريو الأول، في ظل غياب إرادة سياسية مركزية للسيطرة على الفوضى، وانشغال الأطراف الفاعلة بمصالحها الضيقة.
البعد الإقليمي والدولي
رغم أن معظم أحداث آب تبدو داخلية الطابع، إلا أن بعض أنماطها ترتبط بتنافس القوى الإقليمية على النفوذ داخل سوريا، فالعنف ضد شخصيات مرتبطة بأجهزة أمنية سابقة يخدم أطرافا تسعى لتصفية نفوذ النظام السابق نهائيا، فيما تُستخدم الاغتيالات الطائفية كأدوات لزعزعة استقرار مناطق خصوم سياسيين أو عسكريين.
كما أن استمرار العنف الأهلي بهذا الشكل يضعف موقف سوريا في أي مفاوضات سلام أو إعادة إعمار، إذ يُظهر الدولة ككيان عاجز عن حماية مواطنيه، ما قد يُستغل دولياً لتبرير تدخلات أوسع.
شهر آب 2025 كان بمثابة جرس إنذار فاستمرار هذا النمط دون تدخل سيحوّل النزاع السوري إلى نموذج كلاسيكي لـ”الحرب الأهلية الممتدة”، حيث يتغذى العنف على ذاته، ويصبح من الصعب فصله عن الحياة اليومية للسكان.

