دخلت سوريا منذ عام 2011 مرحلة حرجة في منظومتها الغذائية، فشهدت تراجعا متسارعا في إنتاج القمح، وتحوّلا استراتيجيا من الاكتفاء الذاتي إلى الاعتماد البنيوي على الاستيراد، وسط تجاذبات جغرافية وسياسية واقتصادية تُهدّد بانكشاف أوسع في الأمن الغذائي، لم تعد هذه الأزمة مجرد قضية زراعية أو موسمية، بل تحوّلت إلى عنصر بنيوي في معادلة الاستقرار الوطني، تُلقي بظلالها على السيادة الغذائية، وكرامة المواطن، ومستقبل التنمية.
يأتي هذا التراجع في سياق إقليمي وعالمي يتسم بتقلّبات مناخية حادّة، وارتفاع في أسعار الحبوب، وتوترات جيوسياسية في مناطق الإمداد الحيوية، ومع تصاعد وتيرة الجفاف، واحتدام النزاع الداخلي، وتعطّل البنية التحتية، يجد المزارع السوري نفسه محاصرا بين تراجع الإنتاجية، وغياب الحوافز، وندرة المدخلات.
من الاكتفاء إلى العجز البنيوي
سجّلت سوريا ذروة إنتاجها من القمح في عام 2010، وعند مستوى خمسة ملايين طن تقريبا، مدعومة بمساحات مزروعة واسعة ونظام دعم زراعي مركزي، ما جعل البلاد على أعتاب الاكتفاء الذاتي الغذائي، غير أنّ اندلاع الحرب في 2011 مثّل نقطة مفصلية أحدثت انهيارا في كامل المنظومة الزراعية، فتراجع الإنتاج مباشرة إلى نحو 2.8 مليون طن في موسم 2011/2012، ثم إلى 2.4 مليون طن في 2013، وفقا لتقديرات FAO وWFP، نتيجة تعطل سلاسل الإمداد، وصعوبات في الزراعة والحصاد والنقل، ولم يكن هذا الانحدار ظرفيا، بل تدحرج عبر السنوات التالية ليبلغ أدنى مستوياته في 2018/2019 عند 1.22 مليون طن فقط، رغم محاولات دعم موسمية متفرقة.
العوامل البنيوية وراء هذا التراجع متعددة ومتشابكة، ابتداء من انهيار شبكات الري، وتراجع تدفّقات نهر الفرات منذ 2020، إضافة إلى موجات جفاف متتالية بلغت ذروتها في 2021، حيث اعتبرته منظمات دولية الأسوأ منذ أكثر من ثلاثة عقود، كما واجه المزارعون تضخما هائلا في أسعار الوقود والبذار والأسمدة، في ظل انعدام قدرة الحكومة على توفير مستلزمات الإنتاج، وتزامن هذه الأمور مع انقسام خارطة السلطة، ما عمّق التجزئة في سياسات التسويق والشراء والدعم، ففُرضت حواجز تسويقية بين مناطق النفوذ المختلفة، وتقلّصت الحوافز الاقتصادية أمام المزارعين، وتحولت سوريا نتيجة ذلك من دولة شبه مكتفية ذاتياً إلى مستورد صافٍ للقمح، في ظرف أقل من ثلاث سنوات.
سلسلة زمنية لانحدار الإنتاج
بين عامي 2015 و2022، تراوح إنتاج القمح في سوريا ضمن مستويات متفاوتة، حيث سجل أدنى مستوياته في موسم 2018/2019 بإنتاج لم يتجاوز 1.22 مليون طن فقط، وعلى الرغم من تحسن الإنتاج نسبياً في موسم 2023/2024 ليبلغ نحو 3.03 ملايين طن، فإن هذا الرقم لا يزال أقل بنسبة 40% مقارنة بذروة الإنتاج في عام 2010.
وكانت التقديرات الأولية لموسم 2024/2025 أن إنتاج القمح في سوريا سيستقر عند حدود 3 ملايين طن، رغم اتساع المساحات المزروعة إلى نحو 1.4 مليون هكتار، بمتوسط غلة لا يتجاوز 2.14 طن للهكتار الواحد.
غير أن هذا الرقم لا يعكس تعافيا، بل يخفي خلفه واقعا مقلقا فالإنتاج تراجع بنحو 40% بسبب أسوأ موجة جفاف تضرب البلاد منذ 36 عاماً، حيث لم تُزرع سوى 40% من الأراضي القابلة للزراعة في بعض المناطق الرئيسية مثل الحسكة وحمص، ما يضعف الجدوى الكلية للموسم الزراعي ويؤكد استمرار هشاشة القطاع.
فجوة الاستيراد المتّسعة
تزامناً مع الانخفاض الحاد في الإنتاج، اتسعت الحاجة إلى الواردات بشكلٍ ثابت، إذ تشير تقديرات 2023/2024 إلى استيراد بين 2.0 و2.3 مليون طن، معظمها من روسيا، مع شحنات بارزة عبر موانئ القرم (سيفاستوبول)، وهذه المعادلة تعكس اعتمادا متزايدا على أسواق خارجية وسط هشاشة مالية تمنع الحكومة من تأمين عقود توريد كبرى، كما حصل في موسم 2024، حيث لم تتجاوز مشتريات الحكومة 373,500 طن.
تشظي السلطات وتضارب أسعار الشراء
تتباين أسعار الشراء الرسمية بين دمشق ومناطق الإدارة الذاتية، ففي حين رفعت الحكومة السعر إلى 5,500 ليرة/كغ في 2024 (نحو 0.36 دولار)، خفّضت الإدارة الذاتية السعر إلى 0.31 دولار/كغ، ما أثار احتجاجات واسعة في شمال شرق سوريا. هذا التفاوت يُفرز إرباكا في سلوك المزارعين التسويقي، ويضعف الحوافز الاستثمارية.
أزمة متعددة الأبعاد
ليست أزمة القمح في سوريا مجرّد نتيجة لحرب طويلة، بل انعكاس لتشابك عوامل بيئية واقتصادية ومؤسساتية وسياسية تُعمّق من هشاشة الأمن الغذائي، فهي أزمة مركّبة تتغذى على فشل البنية التحتية، وتآكل السياسات الزراعية، وتفاقم تأثيرات التغير المناخي، إلى جانب الانقسام الجغرافي والإداري الذي شلّ آليات الدعم والتوزيع، وتتلخص هذه العوامل وفق التالي:
- مناخيا شهدت البلاد أسوأ موسم جفاف منذ 36 عاما، ما خفّض إنتاج 2024 بنسبة 40%، خصوصا في الحسكة وحمص، حيث لم تُزرع سوى 40% من الأراضي.
- مؤسساتيا تعطلت منظومة الطحن والخبز منذ 2013، وفُقدت القدرة على النقل والتخزين، ما رفع مستويات الفاقد الغذائي إلى مستويات غير مسبوقة.
- اقتصاديا فإنارتفاع أسعار الوقود والبذار، مع غياب منظومات دعم فعالة، أثقل كاهل المزارع وأضعف جدوى الزراعة البعلية.
- سياسيا أدى الانقسام في إدارة ملف القمح، وتحويله إلى ورقة تفاوض إقليمي، إلى هشاشة في تأمين الأمن الغذائي الوطني.
بُعد الأزمة الإنسانية
وفق تقرير حديث لوكالة “رويترز” ومنظمة الأغذية والزراعة، فإن نحو 3 ملايين سوري مهددون بجوع حاد، وأكثر من نصف السكان يعانون من انعدام الأمن الغذائي، والفجوة المتوقعة في القمح لعام 2024/2025 تصل إلى 2.73 مليون طن، وهي كمية تكفي لإطعام 16 مليون شخص لمدة عام، ورغم تخفيف بعض العقوبات، لا تزال العراقيل المالية تمنع استيراد الكميات المطلوبة.
ليست أزمة القمح في سوريا ظرفاً طارئاً، بل نتيجة مباشرة لتقاطع الجفاف، والانقسام السياسي، وتآكل القدرات المؤسسية، والمطلوب اليوم ليس فقط تأمين واردات عاجلة، بل إطلاق استراتيجية وطنية للأمن الغذائي، تشمل استصلاح الأراضي، توحيد أسعار الشراء، وتطوير شبكات الدعم والتوزيع، إن لم يتحقق ذلك، فإن ما يُهدَّد ليس فقط رغيف الخبز، بل العقد الاجتماعي ذاته.