في بلادٍ تحفر السياسة فيها مسارا كما تفعل الأنهار القديمة، لا شيء يبقى على حاله سوى الحاجة إلى القوة، والخوف من الفراغ، فسوريا، التي خبرت كل ألوان العنف والانهيار، وجدت نفسها فجأة أمام فصل جديد تُكتب صفحاته لا بالحبر بل بالرماد
أحمد الشرع، الاسم الذي خرج من معاقل “الجهاد” إلى مقعد الحكم، لا يقف فقط على صورة النظام السياسي السابق، بل على مفترق طرق لدولة تُعيد تعريف ذاتها، وتحاول لملمة هويتها بعد سبعة أشهر من التشتت ومحاولة الانقلاب على الجمهورية الأولى.
صعود أحمد الشرع إلى الحكم: من الجهاد إلى القصر الرئاسي
في الشرق الأوسط، حيث التاريخ لا يُطوى بل يُعاد تدويره، تبدو سوريا اليوم كأنها تقف على عتبة الهاوية ذاتها التي حاولت الخروج منها لعقود منذ سقوط النظام السياسي لسلطة البعث في كانون الأول 2024، وصعود أحمد الشرع إلى سدة الحكم، بدأت ملامح معركة جديدة تتشكل؛ صراع ليس فقط على السلطة، بل على طبيعة الدولة نفسها، وعلى هويتها، وعلى روحها التي أنهكتها الحروب والطوائف والخرائط المستوردة من الخارج.
التحديات السياسية والأمنية التي تواجه نظام الشرع
أحمد الشرع، القادم من خلفية جهادية عسكرية الذي كان فيما مضى أحد قادة تنظيم القاعدة، بات الآن رئيس دولة تتنازعها الأطياف، وتنتظرها حسابات دقيقة تتجاوز قوته العسكرية، فهو وعد بحماية الأقليات، وسرعان ما وجد نفسه محاصرا في تناقضاته.
لم يمض وقت طويل حتى تحولت وعوده إلى محك سياسي وأخلاقي، مع المجازر التي طالت الطائفة العلوية، والاشتباكات في السويداء التي استدرجت تدخلا إسرائيليا غير مسبوق.
تحذيرات أميركية من الانهيار: براك يدق ناقوس الخطر
توم براك، المبعوث الأميركي الخاص، يدق ناقوس الخطر من بيروت؛ الشرع يفقد الزخم، والوقت ليس حليفه، ويوجه له نصيحة مباشرة في لقاءاته الخاصة،: “غيّر نهجك قبل أن تعزلك الوقائع”.
التوصيات الأميركية ليست محض رأي دبلوماسي، بل خريطة طريق فيها تلميحات إلى ما هو أعمق من النصائح؛ إعادة هيكلة الجيش، وتقليص التوجه الإسلامي المتشدد، والبحث عن توازنات أمنية إقليمية، كلها مؤشرات إلى أن واشنطن ترى في الشرع مشروع حكم لا يزال هشا، ويكاد يفتقد القدرة على الاستمرار إن لم يتحول جذريا.
غياب البدائل السياسية في سوريا: مخاطر الفراغ المحتمل
لكن هل يمكن لرجل مثل الشرع أن يتغير؟ في تقاليد الشرق الأوسط، لا يبدّل القادة جلودهم إلا حين يُجبرون على ذلك، والزمن الآن ليس زمن مبارك ولا القذافي، بل ما بعد أفغانستان الثانية، حيث غياب البدائل يعادل انهيار الدول.
براك يقولها صراحة: “لا يوجد خليفة جاهز، وقد نشهد سيناريو أسوأ من ليبيا”، وهذا الاعتراف بغياب البديل يعكس عمق الأزمة، ويفضح هشاشة الحسابات الدولية التي راهنت دوما على قوة التغيير، دون أن تمتلك خطة لليوم التالي.
تحديات بناء دولة سورية جامعة بعد الحرب
إن أزمة الشرع لا تكمن فقط في سيرته الجهادية أو ضعف مؤسسات حكمه، بل في النظام الذي يحاول إدارته، فسوريا الجديدة ليست دولة مؤسسات، بل أرض متنازعة بين ذاكرة جماعية مثخنة بالدماء، وطموحات فئوية ضيقة، وإملاءات إقليمية متضاربة.
هنا، لا ينفع أن تكون قويا فحسب؛ عليك أن تكون مرنا، وذكيا، وقادرا على بناء سردية وطنية تقنع من نجوا من الحرب بأنهم جزء من مشروع دولة، لا ضحايا لتوازنات ما بعد المعركة.
مجازر السويداء: مأزق حماية الأقليات في سوريا الجديدة
التقارير الغربية، خصوصا ما نشرته صحيفة “Bild” الألمانية، ترسم صورة قاتمة، حيث الهجمات على المدنيين في جبل العرب، وإعدامات ميدانية، وإذلال علني، في المقابل، يقول براك إن الفظائع ليست من صنع النظام، بل نتيجة تمويه من عناصر داعش بزي الجيش.
المفارقة هنا أن الكارثة السورية باتت عصية على التوثيق الدقيق، فلا أحد يثق تماما بما يراه، الصور مفبركة، الشهادات متضاربة، والحقائق تُخنق بتعدد الرواة.

التدخل الإسرائيلي في سوريا: غارات السويداء وأبعادها الإقليمية
وسط هذا الضباب، تظهر إسرائيل كفاعل متقاطع مع الحدث لا من خارجه، فتدخلها الجوي في السويداء، بذريعة حماية المدنيين، يضعنا أمام تحوّل نوعي في معادلة الردع، وسوريا، التي كانت يوما مسرحا لصراع المحاور، صارت ملعبا بلا حكَم، والتدخلات لم تعد مؤجلة أو مخفية، بل صريحة، ومحمّلة برسائل معقدة.
الفيدرالية والهوية: خيارات النظام السوري الجديد
براك يدعو “إسرائيل” إلى الحوار مع “الزعماء السنّة الجدد”، وهي دعوة دبلوماسية في ظاهرها لتجاوز التصعيد، لكنها في عمقها السياسي تعبير عن واقع جديد تُرسم ملامحه بصمت، حيث تصاعد نفوذ الإسلام السياسي في تركيبة السلطة السورية ما بعد الحرب، مقابل تراجع رمزي واضح لنفوذ الهوية الوطنية.
هذه العبارة تكشف ما هو أبعد من السياسة، لأنها تقترح ضمنا أن القيادة الجديدة لم تعد مجرد طارئ مرحلي بل قاعدة جديدة لإعادة تشكيل النظام السياسي، بما يحمله ذلك من تبعات مذهبية عميقة، فإعادة تعريف الهوية السورية هنا لا تتم من خلال خطاب جامع، بل عبر توزيع مذهبي للسلطة يعيد إنتاج الانقسام تحت مسمى “التكيّف الواقعي”.
أما الحديث عن الفيدرالية، وإن قُدّم كخيار داخلي، فليس سوى اعتراف مبطَّن بأن مركزية دمشق، كمرجعية شاملة وقادرة على الدمج، انهارت، وما يُقدَّم اليوم كحل سياسي مرن ليس سوى صيغة اضطرارية تبرر تقاسم النفوذ، وتُفرغ مفهوم الدولة الواحدة من مضمونه، لتعيد إنتاجه وفق شروط جغرافية ومذهبية جديدة، فالعبارة تكشف ما هو أبعد من السياسة لأنها تريد إعادة تعريف الهوية السورية على أسس مذهبية مضمرة، الحديث عن الفيدرالية، وإن قُدّم كخيار داخلي، ليس سوى اعتراف مبطَّن بأن مركزية دمشق ماتت، وأن حلم الدولة الواحدة الموحدة قد لا يُبعث من جديد إلا بشروط جديدة.
مستقبل القيادة السورية: من رجل الحرب إلى رجل الدولة؟
تبدو السلطة في سوريا وكأنها سفينة فقدت بوصلتها، تائهة في التناقضات والأوهام المتراكمة، فكل اتجاه سياسي لا يسنده مشروع وطني متماسك يتحول إلى عبء في زمن ما بعد الكارثة.
الشرع ربما جسد شخصية المجاهد والمقاتل وحتى “المخلص” بشكل لا يخلو من الاستعراض، لكنه ليس بالضرورة رجل دولة، لأن الدولة لا تُبنى على الحسم العسكري وحده، بل على المعنى الذي تمنحه للمؤسسات، وعلى قدرتها في استيعاب الهويات المختلفة ضمن نسيج جامع.
فالدولة، في جوهرها، لا تُدار بالقوة وحدها، والمخولة وحدها استخدامها كفعل مشروع وفق ماكس فيبر، بل تتطلب توازنا دقيقا بين الرؤية والقوة، بين الخيال الاستراتيجي والانضباط المؤسسي، بين القدرة على الحسم والقدرة على التضمين، وبين الشرعية التي تُنتجها الإرادة الشعبية وتلك التي تُكرّسها النتائج على الأرض. وإن لم يدرك ذلك سريعا، فسينتهي به المطاف معزولا، لا لأنه هزم، بل لأنه لم يفهم كيف تنتصر الدول بعد الحرب.
بين الفشل والتحول: خيارات أحمد الشرع في المرحلة المقبلة
مستقبل السلطة في سوريا ليس مرهونا فقط ببقاء الشرع أو رحيله، بل بقدرته على الخروج من عباءة الماضي، وتشكيل هوية سياسية تتجاوز شبح القاعدة، والخيار الحقيقي أمامه ليس بين الاستمرار أو الفشل، بل بين التحول إلى رجل دولة أو أن يُمحى اسمه من سجل الناجين.
كما قال براك: “الجميع بحاجة إلى التكيّف”، لكن التكيّف هنا ليس مجرد رد فعل، بل فنّ سياسي يتطلب خيالا ومرونة وأفقا مفتوحا على احتمالات لا تنتهي، وهذا بالضبط ما تفتقر إليه السلطة في سوريا اليوم: خيال سياسي يعيد تعريف الممكن.