د. ميلاد السبعلي، رئيس مؤسسة سعاده للثقافة
المقدّمة
تمر الجمهورية العربية السورية منذ أكثر من عقد في أزمة شاملة، تجاوزت حدود الصراع العسكري والسياسي لتطال الوعي الجمعي والثقافة الوطنية. فالمجتمع السوري اليوم يواجه أزمة في الخيال، وانسدادًا في الأفق، وتراجعًا في القدرة على الحلم الجماعي. لكن في المقابل، يشهد العالم ثورة علمية غير مسبوقة يقودها الذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات. والسؤال المطروح: كيف يمكن إعادة وصل الحلم السوري المفقود مع أدوات العصر، ضمن إطار فكري قومي اجتماعي يقدّم البوصلة والرؤية؟
أولاً: الإشكالية – العقم السياسي وانعكاسه على الثقافة
في مقال منصة سورية الغد بعنوان: “التأثير الثقافي في الأزمة السورية: بين العقم السياسي وأفق الحلم المفقود”، ذُكِرَ أن الأزمة لم تعد مجرد لعبة توازنات سياسية، بل صارت عقمًا في إنتاج المعنى والمعرفة. السياسة تحوّلت إلى متاهة تستهلك الناس وتُرهقهم، بدل أن تكون وسيلة لإدارة الخلاف وبناء المصالح المشتركة. المواطن السوري بات يملك مواقف آنية حادة، لكنه يفتقر إلى الرؤية النقدية طويلة المدى.
هذا العقم السياسي انعكس على الثقافة: الدراما تكرّر المشاهد نفسها دون تجديد، المراكز الثقافية والمسرح الأكاديمي تراجع دورها، والمجتمع غارق في استهلاك سطحي يفتقر إلى المشاريع الكبرى. النتيجة هي انعدام القدرة على التخطيط للمستقبل، وانكماش الخيال، وتحوّل الثقافة إلى مرآة للأزمة بدل أن تكون أداة لتجاوزها.
خريطة تفاعلية: الفكر القومي الاجتماعي × الذكاء الاصطناعي
يوضح الرسم مسار الانتقال من الفكر القومي الاجتماعي إلى الأدوات الحديثة (الذكاء الاصطناعي، التحول الرقمي، علوم البيانات) وصولاً إلى القطاعات والنتائج النهضوية.
ثانياً: الفكر القومي الاجتماعي كإطار بديل
الفكر القومي الاجتماعي، كما وضعه أنطون سعاده، لا يقتصر على تعريف الهوية أو رسم الحدود السياسية، بل يقدّم رؤية متكاملة للمجتمع بوصفه وحدة حيّة مترابطة المصير. هذه الرؤية تضع الأمة فوق الانقسامات الدينية والطائفية والإثنية، وتؤكد أنّ المجتمع لا ينهض إلا بوحدة مصالحه واتجاهه نحو غاية مشتركة. في هذا الإطار تصبح الثقافة ليست ترفاً أو انعكاساً للأزمة، بل أداة لبناء وعي جماعي يربط الفرد بمصيره القومي، ويدفعه إلى التفكير في المستقبل لا في اللحظة الراهنة فقط.
هذا الفكر يضع السياسة في حجمها الطبيعي، أي كوسيلة لتنظيم حياة المجتمع وخدمة مصالحه العليا، لا كغاية بحد ذاتها. ومن هنا، يشكّل الفكر القومي الاجتماعي أساساً لإعادة الاعتبار للسياسة بوصفها أداة للمصلحة العامة، وإعادة تعريف الثقافة باعتبارها قوة نهضوية جامعة لا مجرد استعراض سطحي أو انعكاس لعجز الواقع.
ثالثاً: العلوم الحديثة كرافعة للخروج من الأزمة
الثورة الصناعية الرابعة تغيّر وجه العالم بسرعة مذهلة، حيث يقف الذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات والتحول الرقمي على رأس هذه التحولات. بينما تنشغل دول كثيرة بابتكار تطبيقات تعيد تشكيل التعليم، والصحة، والاقتصاد، والإدارة، ما تزال سورية عالقة في أزماتها التقليدية. ومع ذلك، فإن الإمكانيات كامنة، إذا ما تم توجيهها ضمن مشروع قومي شامل.
يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقدّم حلولاً حقيقية: في التعليم عبر المنصات الذكية التي تراعي قدرات كل طالب وتفتح المجال أمام تعلّم شخصي يعوّض نقص المعلم أو غياب البنية التحتية؛ في الزراعة عبر النماذج التنبؤية التي تساعد على إدارة المياه والتربة والمحاصيل بكفاءة، خصوصاً في بلد يعاني من ندرة الموارد؛ وفي الاقتصاد عبر تطوير منصات رقمية تعزّز ريادة الأعمال وتفتح المجال أمام الشباب لابتكار حلول تنافسية. كذلك يمكن للعلوم الحديثة أن تُعيد إلى الثقافة حيويتها عبر فضاءات رقمية ومختبرات إبداعية، حيث يصبح المسرح والفن جزءًا من شبكة تفاعلية تربط السوريين في الداخل والمهجر.
رابعاً: نحو مزاوجة الفكر القومي الاجتماعي مع الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي
إنّ الفكر القومي الاجتماعي يقدّم الرؤية الجامعة، أي البوصلة التي تمنع المجتمع من التشتت والانقسام، بينما يقدّم الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي الأداة التنفيذية، أي القدرة على تحويل الرؤية إلى سياسات ومؤسسات وإجراءات عملية. الجمع بينهما لا يعني استخدام التكنولوجيا بمعزل عن الثقافة، بل يعني بناء مشروع متكامل يستند إلى وعي قومي صلب من جهة، وأدوات علمية حديثة من جهة أخرى.
هذا المزج يتيح إعادة تعريف الحلم الوطني كمشروع مؤسساتي مدعوم بالتكنولوجيا، يفتح الطريق أمام ثقافة مقاومة خلاقة، ويحوّل الشباب إلى طاقات إنتاجية مرتبطة بالعالم بدل أن تبقى أسيرة أزمات الداخل. وبهذا، تتحقق جدلية “الفكر-الأداة”: الفكر القومي الاجتماعي كعقل موجِّه، التحول الى الاقتصاد المعرفي القائم على الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي كذراع منفّذة.
خامساً: الحل النظري والعملي للأزمة – دمج شامل في كل مجالات الحياة
إنّ ما وصفه مقال سورية الغد بالعقم السياسي والثقافي لا يمكن تجاوزه عبر حلول تقنية فقط، بل يتطلّب رؤية فكرية شاملة تضبط الاتجاه. هنا يأتي دور الفكر القومي الاجتماعي بوصفه العقل الموجّه الذي يحدّد الغاية القومية الجامعة ويعيد وضع كل قطاع ضمن خريطة النهوض العام. فالتطوير في سورية لا يجب أن يكون مبعثرًا أو منفصلاً عن المشروع القومي، بل منسجمًا مع رؤية تهدف إلى بناء مجتمع واحد قوي متماسك.
1. التعليم
الفكر القومي الاجتماعي يضع التربية في قلب النهضة باعتبارها الوسيلة الأساسية لتكوين إنسان جديد منتمٍ لمجتمعه وواعٍ لمصيره. من هنا، فإن استخدام الذكاء الاصطناعي لبناء مناهج رقمية تفاعلية لا يعني فقط رفع كفاءة التعليم، بل غرس قيم الانتماء والوحدة القومية في جيل يتعلّم بعقل علمي ناقد. فالمدرسة ليست مجرد مؤسسة نقل معرفة، بل مصنع وعي قومي، والذكاء الاصطناعي يصبح أداة لتخصيص التعلم وتعزيز تكافؤ الفرص بين أبناء الشعب الواحد في الداخل والمهجر.
2. الاقتصاد والإنتاج
القومية الاجتماعية ترى أن الاقتصاد يجب أن يُبنى على قاعدة المصلحة القومية العامة والإنتاج القومي، لا على مصالح فردية أو فئوية. توظيف علوم البيانات في توجيه الاستثمارات وتحسين الإنتاج الزراعي والصناعي يكتسب معناه حين يكون هدفه تحقيق الاكتفاء الذاتي وتعزيز استقلال القرار الوطني والسيطرة على الموارد الطبيعية. الذكاء الاصطناعي هنا لا يُستخدم فقط لزيادة الأرباح، بل لربط الاقتصاد بمشروع نهضة يحرّر الأمة من التبعية.
3. الصحة
الرعاية الصحية وفق الفكر القومي الاجتماعي ليست خدمة تُقدَّم وفق مقياس الربح، بل حق قومي يضمن سلامة المجتمع. لذلك، فإن توظيف الذكاء الاصطناعي في التنبؤ بالأمراض، وتوزيع الموارد الطبية بعدالة، وإنشاء منصات رقمية لتقديم الخدمات في المناطق المهمشة، يصبح أداة لتجسيد العدالة الاجتماعية التي ينادي بها الفكر القومي.
4. الثقافة والفنون
الثقافة في منظور القومية الاجتماعية هي التعبير الأعمق عن هوية المجتمع وروحه. إدخال تقنيات الذكاء الاصطناعي في الإبداع الفني والأدبي لا يجب أن يؤدي إلى تفريغ الثقافة من مضمونها، بل إلى مضاعفة قدرتها على نشر الوعي والارتقاء بالذائقة العامة. المسرح الرقمي، الأرشفة التفاعلية للتراث، والمختبرات الإبداعية للشباب، كلها وسائل لإعادة وصل الثقافة بغايتها القومية، أي صناعة مجتمع حي قادر على الحلم والإبداع.
5. الإدارة والحوكمة
الغاية من الدولة في الفكر القومي الاجتماعي هي تنظيم قوى المجتمع لخدمته لا للتحكّم به. لذلك فإن إدخال أنظمة الذكاء الاصطناعي في مراقبة الأداء المؤسسي، مكافحة الفساد، وتحليل البيانات الحكومية لا يُنظر إليه كإجراء تقني بارد، بل كجزء من مشروع لإعادة الثقة بين الدولة والمجتمع، وجعل السياسة أداة في خدمة الغاية القومية العليا.
6. البيئة والموارد
إدارة الموارد في القومية الاجتماعية تستند إلى مبدأ حيوي هو حماية حياة المجتمع واستمرارها. توظيف تقنيات الاستشعار عن بعد والذكاء الاصطناعي في إدارة المياه والطاقة والتنبؤ بالكوارث، ليس خياراً تقنياً فقط بل التزام قومي بحماية الأرض التي هي شرط وجود الأمة وضمان مستقبلها.
سورية الحالية كجسر إلى سورية الطبيعية
إنّ هذه المشاريع لا يجب أن تبقى محصورة في حدود سورية الحالية. فالفكر القومي الاجتماعي يربط مستقبل دمشق بحلب وبيروت وبغداد وعمان وفلسطين، ضمن وحدة المصير القومي. هنا يمكن لسورية الحالية أن تلعب دور **المركز الجاذب** الذي يطلق مشاريع تعاون إقليمي في التعليم، الاقتصاد، الصحة، الثقافة، والبيئة، مستخدمة **الدبلوماسية الرقمية** كوسيلة لخلق تكتل اقتصادي-اجتماعي معاصر يرتكز إلى جوهر القومية الاجتماعية.
بهذا التصوّر، تصبح سورية الحالية منصة لتكامل الطاقات وتبادل الخبرات، فتتحوّل مشاريع الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي وتحليل البيانات من أدوات محلية لمعالجة أزمة داخلية، إلى أدوات استراتيجية لإطلاق نهضة قومية شاملة تعيد صياغة موقع المنطقة في العصر الرقمي.
الخاتمة
الأزمة السورية أظهرت أن العجز لم يعد سياسياً فقط، بل فكرياً وثقافياً أصاب قدرة المجتمع على الحلم وصياغة المستقبل. تجاوز هذه الأزمة يتطلّب مشروعاً يجمع بين الرؤية القومية الاجتماعية التي تضع وحدة المجتمع ومصلحته فوق الانقسامات، وبين الأدوات الحديثة من ذكاء اصطناعي وتحول رقمي وتحليل بيانات كبيرة.
هذه الأدوات ليست ترفاً تقنياً، بل وسيلة لإعادة بناء التعليم، وتحقيق عدالة صحية، وتنمية الاقتصاد، وتجديد الثقافة، وإرساء حوكمة شفافة. وعندما تعمل جميعها ضمن إطار قومي جامع، تتحوّل إلى قوة نهضوية تدفع المجتمع إلى الأمام.
كما أن دور سورية لا يقتصر على إصلاح الداخل، بل يمتد ليجعلها مركز جذب وتكامل مع الكيانات الأخرى في سورية الطبيعية. عبر الدبلوماسية الرقمية يمكن لسورية أن تطلق تكتلاً اقتصادياً–اجتماعياً معاصراً، يواكب العصر الرقمي، ويعيد صياغة موقع المنطقة كفاعل أساسي في المستقبل العالمي.