مع كل إعلان عن إطلاق مشروع جديد لإعادة الإعمار في سوريا، يتجدد السؤال حول جدوى هذه المبادرات وقدرتها الفعلية على تجاوز واقع الخراب الاقتصادي والاجتماعي.
أحدث هذه المبادرات هو ما سُمّي بـ “صندوق التنمية السوري”، الذي قُدِّم كأداة وطنية لإعادة البناء وتحقيق التنمية المستدامة بعد أكثر من عقد من الحرب، والإعلان حمل رمزية بالغة ابتداء من موقع الإطلاق في قلعة دمشق، ثم الوعود السياسية والإعلامية الواسعة بالانتقال من زمن الحرب إلى زمن البناء؛ لكن هل يمكن لهذا الصندوق أن يكون أداة حقيقية للتنمية، أم أنه مجرد محاولة لإعادة تدوير خطاب التنمية في ظل غياب الشروط البنيوية اللازمة؟
الأموال المجمَّعة: البداية القوية التي تطرح أسئلة
في الساعات الأولى لإطلاق الصندوق، تدفقت التبرعات بشكل لافت، إذ تجاوزت قيمة ما جُمع 60 مليون دولار، بل أشارت بعض التقديرات إلى بلوغها 61 مليون دولار في أقل من ساعة، واحتفى الإعلام الرسمي بالرقم كدليل على “الثقة الشعبية” و”التلاحم الوطني”.
غير أن النظرة الاقتصادية التحليلية تضع هذه الأرقام في سياق مختلف، فتكلفة إعادة إعمار سوريا تُقدَّر بين 250 و400 مليار دولار، أي أن ما جُمع لا يمثل سوى نقطة في بحر، هنا يظهر السؤال المركزي: إذا كانت البداية تعتمد فقط على التبرعات الفردية والاشتراكات الشهرية، فأين الخطة التمويلية المستدامة؟
بين التنمية كحرية والتنمية كإدارة أموال
تجارب التنمية في العالم تؤكد أن النجاح لا يُقاس فقط بحجم الأموال المرصودة أو سرعة تدفقها، بل بمدى قدرتها على إحداث تحولات اجتماعية واقتصادية ملموسة في حياة الأفراد، التنمية الحقيقية هي تلك التي توسّع خيارات الناس، وتفتح أمامهم إمكانات جديدة للتعلم والعمل والعيش الكريم، بحيث لا تقتصر على إعادة بناء البنية التحتية أو تحسين المؤشرات الاقتصادية المجردة، بل تتجلى في تعزيز العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة بشكل أكثر إنصافا.
هذا ما شدّد عليه أمارتيا سِن، الاقتصادي الهندي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1998، في أطروحته الشهيرة التنمية كحرية، حيث اعتبر أن التنمية ليست مجرد نمو اقتصادي، بل هي توسيع قدرة الإنسان على العيش بكرامة واتخاذ خياراته بحرية، ومن هذا المنطلق، يطرح صندوق التنمية السوري سؤالا جوهريا؛ فهل سيكون أداة لإعادة تمكين السوريين وإحياء قدرتهم على تقرير مصيرهم؟ أم أنه سيُدار كجهاز بيروقراطي آخر يركّز على المشاريع العمرانية والحجر، دون معالجة جوهر الأزمة المتمثل في الإنسان، حرياته، وحقه في المشاركة الفعلية في رسم مستقبل بلده؟
إشكالية الحوكمة والشفافية
المراسيم الرئاسية التي أنشأت الصندوق منحته شخصية قانونية مستقلة وربطته مباشرة برئاسة الجمهورية، وللوهلة الأولى يبدو ذلك ضمانة، لكنه عمليا يطرح مخاوف جدّية في من سيراقب عمل الصندوق؟ وكيف ستُدار التبرعات؟ وهل ستُتاح بيانات الإنفاق للرأي العام؟ فمن دون آليات رقابية مستقلة وشفافة، سيظل الصندوق مهددا بأن يتحول إلى أداة لإعادة توزيع الريع لصالح شبكات السلطة.
التجربة السورية السابقة مع مؤسسات مشابهة تُظهر ضعف ثقة المواطنين بالوعود الحكومية، فغياب الشفافية المالية هو نقطة ضعف قاتلة لأي مشروع تنموي، لأن الثقة العامة هي الشرط الأول لتدفق التبرعات واستمرارها، هنا بالذات يتقاطع الصندوق مع النظر إلى التنمية التي لا تفشل بسبب نقص الموارد فقط، بل لأن المؤسسات القائمة عليها تُدار بطرق غير ديمقراطية وغير شفافة.
الفجوة بين وعود صندوق التنمية السوري واحتياجات السوريين الحقيقية
مصادر التمويل: بين الداخل والعزلة الدولية
المصادر المعلنة للتمويل تشمل التبرعات الفردية، والاشتراكات الشهرية، والهبات، وأرباح الإعلانات، وهذه الصيغة تذكّر بنماذج صناديق اجتماعية محلية أكثر من كونها مؤسسة وطنية كبرى لإعادة الإعمار، والأخطر أن الصندوق يرفض اللجوء إلى الاستدانة الخارجية، وهو موقف يبدو وطنيا، لكنه في الوقت نفسه يعكس عزلة سياسية واقتصادية خانقة، إذ إن غياب المانحين الدوليين يضع الصندوق في وضع يشبه الحلقة المغلقة.
إن الاعتماد المفرط على التمويل الداخلي في بلد يعيش أزمة معيشية خانقة، حيث الغالبية تعاني من الفقر، يعني أن استدامة الموارد موضع شك، كما أن القيود المصرفية الدولية وصعوبات تحويل الأموال من الخارج تجعل حتى مساهمات السوريين في الشتات محفوفة بالعقبات.
أولويات الصندوق: حجر قبل البشر؟
من خلال ما أُعلن، يركّز الصندوق على مشاريع البنية التحتية: طرق، جسور، كهرباء، ماء، اتصالات، وهذا توجه مفهوم بالنظر إلى حجم الدمار، لكنه يخفي مفارقة خطيرة، فما قيمة إعادة بناء الحجر إذا ظل الإنسان مُهمّشًا؟ وأين برامج إعادة دمج النازحين؟ وأين الاستثمارات في التعليم والصحة التي تُشكل ركيزة أي مجتمع قادر على النهوض؟
أكبر خطر يواجه الصندوق هو أن يتحول إلى مجرد أداة لإعادة إعمار مادي دون إصلاح اجتماعي واقتصادي حقيقي، فالتنمية ليست عملية هندسية، بل مشروع اجتماعي سياسي يتطلب إعادة بناء الثقة، والعدالة، والمشاركة الشعبية.
فجوة الثقة والمناخ السياسي
لا يمكن فصل أي مشروع تنموي عن البيئة السياسية التي يعمل ضمنها، التجربة العالمية تبيّن أن غياب حكم القانون، والحريات، والحوكمة الرشيدة يجعل أي صندوق تنمية مهددا بأن يتحول إلى أداة لتعزيز سلطات قائمة لا إلى وسيلة للتحرر الاجتماعي.
ما لم يقترن الصندوق بجهود جادة لإصلاح المؤسسات وتعزيز الشفافية والمساءلة، فإن تدفق الأموال، حتى لو كان كبيرا، يُعيد إنتاج بنية الفساد ذاتها.
المقارنة مع تجارب ما بعد النزاعات
لتقييم الصندوق السوري، من المفيد النظر إلى تجارب قريبة:
- العراق بعد 2003: أُنشئ “صندوق تنمية العراق” تحت إشراف دولي، لكنه تحول إلى مسرح للهدر والفساد، حيث ضاعت مليارات الدولارات دون أثر ملموس على البنية التحتية أو مستوى المعيشة، فغياب الرقابة المستقلة، إلى جانب البيئة السياسية المنقسمة، جعل الصندوق عاجزا عن لعب دوره.
- لبنان بعد 2006: تدفقت المساعدات لإعادة إعمار الضاحية الجنوبية وبنى تحتية أخرى، ولكن غياب التخطيط الوطني الموحد وارتباط التمويل بالمحاور السياسية أدى إلى إعادة إنتاج المحاصصة الطائفية بدل بناء مؤسسات فاعلة.
- أفغانستان بعد 2001: مئات المليارات تدفقت، لكن معظمها ذهب إلى مشروعات قصيرة الأمد أو إلى جيوب متعاقدين دوليين، النتيجة بنية هشة تعتمد على المساعدات دون تنمية مستدامة.
هذه الأمثلة تذكّرنا بأن المال وحده لا يبني تنمية، فالشرط الأساسي هو وجود مؤسسات ذات مصداقية، وبيئة سياسية تضمن مشاركة شعبية فعلية، وآليات شفافة لتخصيص الموارد.
بين المثاليات والواقع
التنمية الحقيقية تبدأ من الداخل، لكن لا يمكن أن تنجح من دون مؤسسات شفافة وديمقراطية، وفي الحالة السورية، لا يكفي إعلان الصندوق ليُشكل بداية جديدة؛ المطلوب هو إطار مؤسسي مستقل يخضع لرقابة مدنية، ويعتمد على معايير واضحة لتخصيص الموارد.
كما أن إعلان أهداف عامة مثل “الازدهار الشامل” و”تحقيق التنمية المستدامة” لا يكفي، فالتحدي الحقيقي هو في تفاصيل التنفيذ، فكيف ستُختار المشاريع؟ من سيُحدد أولوياتها؟ هل ستتم محاسبة القائمين إذا فشلوا؟ وهل ستُخصص موارد لتعويض ضحايا الحرب وإعادة دمجهم؟ ودون ذلك سنضم هذا الصندوق إلى باقي حالات الاستعراض الاقتصادي التي ظهرت على الساحة السورية خلال الأشهر الماضية.
صندوق التنمية السوري، رغم زخمه الإعلامي وبدايته المالية السريعة، يقف أمام معضلة جوهرية، فكيف يترجم وعوده إلى سياسات تنموية حقيقية؟ إذا ظل مجرد صندوق مالي تسيطر عليه النخبة السياسية من دون رقابة مستقلة، فسوف يتحول إلى نسخة محلية من فشل مؤسسات التنمية الدولية.
المسألة ليست في جمع الأموال بقدر ما هي في بناء الثقة، فالتنمية لا تبدأ من الأرصدة المصرفية، بل من عقد اجتماعي جديد يضع الإنسان قبل الحجر، والشفافية قبل الشعارات، والحرية قبل الوعود.