لم تكن الدراما في سوريا مجرد تسلية رمضانية، بل مسرحا مصقولا حيث بدأت الرموز الاجتماعية – الأب، المعلم، رجل الأمن، وحتى مفهوم الشرف، تتهاوى أمام عين المشاهد، ففي أعمال اجتماعية مثل الانتظار، لم يعد الحي الشعبي مكانا للكرم والتكافل، بل مجمعا من العشوائيات يغرق في تهميش، وفي غزلان في غابة الذئاب، لم تعد الشابة السورية صورة نقية محفوظة بل أصبحت شخصية مشوشة أمام حالة تكسر الرموز، ووسط مسار يخالف الشكل التقليدي لمؤسسة الأسرة وعبر فعل درامي يُعمم الإكراه الجنسي والفساد الذكوري، وفي أشواك ناعمة، تخترق الدراما بنية التعليم والتفاوت الاجتماعي المبكر بين فتيات من طبقات اجتماعية مختلفة، وبرؤية درامية تترك المشاهد أمام واقع هش، أما تحت المداس (2009) فيقدّم صورة بانورامية عن التحوّل في القيم والضمائر ويظهر العمل بشكل فاقع “المال” كمرجعية للهوية، ويمثّل كسر الخواطر يبدو صوت النساء المهمّشات كعنوان عريض داخل منظومة أخلاقية ترفض الاعتراف بهم.
الفرضية التي يمكن أن نبدأ بها هي أن الدراما السورية، ما بين عامي 2000 و2011، لم تكن مجرد انعكاس لمجتمع مأزوم، بل قوة تدفع نحو الأزمة عبر إعادة صياغة رموز الهوية السورية، حيث استحضرت المسلسلات التراثية (مثل باب الحارة والخوالي) صورا رومانسية لماضي جماعي متماسك، بينما كانت المسلسلات الاجتماعية تزرع تدريجيا صورا نقيضة، من خلال مجتمع مفرغ من العدالة والقيم والانتماء، تصنعه فقط الرغبة في رسم الجرأة الدرامية التي من المفترض أن تشد المشاهد.
عملت الدراما في اتجاهين، الأول إحياء رموز تراثية مثالية من جهة وكأن المرتجى هو العودة للوراء، والثاني تفكيك رموز اجتماعية قائمة من جهة أخرى، فالمختار الذي يقود الحارة في باب الحارة يعيد للأب صورة الحكمة والصرامة، لكن موظف الدولة في الخبز الحرام أو تحت المداس لا يمتّ له بصلة، بل يمثّل الوجه المتعفن للسلطة اليومية.
هذه الأعمال التي بلغت أوجها بين 2005 و2010 خلخلت الإجماع الأخلاقي، وتجاوزت مفهوم البطل في الدراما ليصبح نموذجا لسادة “الشر”، وفي الوقت الذي كانت فيه هذه الأعمال تفتح أبواب “العيب” و”الحرام” لتكشفها بغرض الإثارة وليس بقصد التشريح الاجتماعي.
الذروة الإنتاجية: صناعة “مواسم رمضان“
بين عامي 2000 و2010، أُنتج في سوريا ما يقارب 400 عمل درامي، بمتوسط بلغ 35 إلى 45 مسلسلا سنويّا، معظمها عُرض خلال شهر رمضان، وهذا التوقيت كان لتعظيم الحضور الجمعي للمسلسل، وتحوّله إلى طقس اجتماعي يومي، في هذه المواسم، لم تكن العائلة السورية تتلقى الترفيه فقط، بل كانت تشكل صورة الواقع كما تريده الدراما عبر رفض الحاضر والحنين للماضي، وخلق شكوك عميقة في مسألة الحداثة التي كانت الهم الرئيسي لمفكري بداية القرن الماض.
في هذه المرحلة، سيطرت أنماط متكررة مثل الدراما التراثية (مثل “الخوالي” و”باب الحارة”)، ودراما السيرة الشعبية (“الزير سالم” و”صلاح الدين الأيوبي”)، وصولا إلى الأعمال التي تُصنّف اليوم بأنها “اجتماعية نقدية” مثل “أشواك ناعمة” و”أحقاد خفية” و”كسر الخواطر”.

حين يخرج الفقر من شاشة التلفاز
لم يكن مسلسل “الانتظار” مجرد عرض لحياة المهمّشين، بل تشريحا تفصيليا لواقع يومي يحاصر ما كان يسمى بـ”الحواضر”، وتصبح العشوائيات نقطة استقطاب درامية مغرية ببطل خارج عن المألوف، فهو على عكس دراما العقود الماضية لم يظهر من النخبة المتعلمة أو حتى البورجوازية، بل من التفاصيل التي يحملها قهر المجتمعات داخل “العشوائيات”، في إحدى حلقات العمل تسأل شخصية شابة: “ليش نحنا دايما بالزاوية؟”، وتتحول العبارة إلى شعار مجازي لتضخم المدن التي أصبحت هوامشها أكبر من أحيائها العريقة.
وإذا كان “الانتظار” يكشف الصراع القائم في المدن السورية بداية القرن الحالي، فإن أعمالا أخرى حاولت تحقيق “جرأة المشاهدة” وبطرق يتجاوز الواقع كذلك، فمسلسل “غزلان في غابة الذئاب” عام 2006 رسم “التواطؤ الجنسي” للسلطة، ولكن إلى أي مدى يمكن اعتبار التمييز الأخلاقي ضد المرأة شكلا دراميا يمكنه من تحقيق صورة تعكس الرغبة في تحرير المرأة، فـ”الغزلان” ليسوا مجرد ضحية بل محاولة لتحقيق “مشاهدة” على مجتمع يحكمه الذكور، بالمال والسلاح والقيم المزدوجة.
الملاحظة الأساسية في البنية الثقافية لمعظم الأعمال المصنفة اجتماعية هي “الشكوك” التي تخلقها داخل العلاقات الاجتماعية، ففي “أشواك ناعمة” (2005)، تنتهي العلاقة القديمة على المستوى النخب، حيث تتقاطع مشاعر الانتماء الاجتماعي مع عنف رمزي ناعم يُمارس على الفتيات القادمين من طبقات دونية، بينما في “تحت المداس”، يتحوّل الصعود المالي السريع إلى فضاء تهتك فيه القيم صورة قاتمة لمجتمع تائهة وسط انهيار سلسلة المعايير التي تحكم العلاقات.

الفكاهة: بقعة ضوء وتفكيك الثوابت
منذ عام 2001، بدأت سلسلة “بقعة ضوء” تعرض في مواسم متتالية، والعمل ظهر كحالة “ثورية” في قالب السكيتش، وتسليط الضوء على السلبيات جرف معه كل ما يحمله المجتمع عن تصورات لتفاصيل حياته، ورغم أن كل مشهد كان يريد تفكيك “الصمت الرسمي”، لكن قام أيضا بإنهاء أي شكل يرتبط بتفاصيل الحياة المعاصرة التي بدت قاتمة رغم الطابع الكوميدي لهذا العمل.
“بقعة ضوء” لم تستمد قوتها من الممثلين فقط، بل من التذكير بأن الحياة من حولنا ناقصة فهي تؤكد عبر الكوميديا أن ما نشاهده ليس خيالا بل خلاصة تفاصيل حياتنا..
الدراما بوصفها أرشيفًا للفجوة الاجتماعية
بين عامي 2004 و2010، ظهرت موجة من المسلسلات التي توثّق الهوة الاجتماعية مثل “ أحلام كبيرة (2004)”، الذي تناول حياة مجموعة من الشباب السوريين الطموحين الذين يعيشون في شقة واحدة بدمشق، ويواجهون صراعات اجتماعية وأخلاقية وسط تناقضات الواقع السياسي والاقتصادي ومسلسل “ على حافة الهاوية (2007)” الذي ناقش قضايا الطبقة الوسطى في سوريا، بما في ذلك العلاقات الزوجية، الانفصال، الاكتئاب، والضغوط الاجتماعية، من خلال قصة ثلاث نساء يواجهن أزمات مصيرية.
وبحلول عام 2010، كانت “الهوية الاجتماعية السورية” تبدو مختلفة تماما عمّا كانت عليه قبل عشرة أعوام، فلم تعد صورة العائلة النمطية في “بيت العيلة” ولا خطاب القيم في “مبروك” كافية لتمثيل الجيل الجديد، فهي خلق مسارا موازيا لا يملك مدرسة على سياق دراما سبعينيات القرن الماضي المفعمة بإيديولوجيات اشتراكية على سبيل المثال، ولا تشبه أيضا دراما النقد الاجتماعي التي ظهرت منذ بداية البث التلفزيوني عام 1961 التي صورت “نقلة التحديث” في مواجهة التراث، بل كانت دراما تعرف فقط قدرة الجذب التي تملكها جرأة الطرح من خلال إنهاء أي مفاهيم رافقت الشكل المعاصر للحياة.
في عام 2011 بدأ الاضطراب في سوريا ولم يكن بعيدا في عمقه الثقافي عن الصور التي نقلتها الأعمال الدرامية، ورغم أن الدراما لم تكن السبب المباشر لكنها رسمت على الأقل تصورات قادرة على التصادم والتناقض ليس على مستوى “المجتمع السياسي” بل أيضا على صعيد الحلم في كسر نمطية من مسار النقد المستمر الذي قدمته الدراما.
إذا أردنا قراءة الحدث الثقافي السوري فإن الدراما الاجتماعية صنعت أولا “تفكيكا داخليا للرموز” فلم يعد الأب محترما بالضرورة، ولا المعلم قدوة، ولا الشرطي حامٍ، تغيرت القيم في العمق قبل أن يهتزّ النظام على السطح.
إن ما حدث عام 2011 لم يبدأ في المساجد فقط، بل في الجملة الدرامية، والمشهد الذي يُغضب العائلة لكنه يُلهم الابن فالدراما لا تغيّر العالم، لكنها تغيّر وعي الذين يغيّرونه.
تماما