لم يكن موسم رمضان 2025 عاديا في مسار الدراما السورية؛ كان موسما انتقاليا يخرج من عقدين من “دراما الأزمة”، إلى محاولة لخلق سردية جديدة عن الذات السورية بعد حربٍ استنزفت الذاكرة والوجدان.
أما موسم 2026 المقبل، الذي بدأت ملامحه تتشكّل منذ خريف 2025، فيبدو وكأنه يخطّ مسار “العودة البطيئة إلى التوازن”، أو كما يسميه الناقد الأمريكي جيمس بونيوزيك:”تحوّل التلفزيون من غرفة الصراخ إلى غرفة التفكير”، وبين هذين الحدّين تتحرك الدراما السورية في لحظة اجتماعية وسياسية حساسة، تحاول فيها أن تستعيد وظيفتها الرمزية كمرآة ومختبر للوعي الجمعي.
دراما 2025: موسم الذاكرة المثقوبة
رمضان 2025 قدّم نحو13 عملا سوريا رئيسيا، توزّعت بين التاريخي (“ليالي روكسي”، “العهد”)، والاجتماعي (“تحت الأرض”، “البطل”)، والبوليسي (“قطع وريد”)، والكوميدي الريفي (“نسمات أيلول”)، ورغم تنوّع المواضيع، فإن المشترك بينها كان نزعة “النوستالجيا المتعبة”؛ عبر العودة إلى الماضي كآلية دفاع نفسية ضد الحاضر المأزوم.
في تحليلٍ للموضوعات، يظهر أن 58%من الأعمال تناولت الزمن الماضي أو ما قبل الحرب، بينما فقط 22% انخرطت في قضايا راهنة، وهذه النسبة تُعبّر عن رغبة دفينة في الانفصال عن الواقع أكثر من مواجهته.
“تحت الأرض” كمثال قدم درسا في الجماليات البصرية لكنه أخفق في تحويل التاريخ إلى سؤال معاصر، أما “نسمات أيلول” فاختار الكوميديا اللطيفة لتصوير أزمة الريف، لكنها بدت أقرب إلى “حكاية ريفية مؤدبة” منها إلى نقد اجتماعي حقيقي.
مثّل موسم 2025 لحظة هيمنة جمالية للمنتِج على المؤلف، فشركات الإنتاج أعادت تدوير أسماء ناجحة وموضوعات مأمونة سياسيا، ما جعل النص الدرامي يبتعد عن المخاطرة، وكانت الرقابة الذاتية ظاهرة في كل حوار؛ شخصيات تتكلّم كثيرا لكن تقول قليلا.
من حيث الشكل، استُعيدت اللغة البصرية المألوفة؛ الكادرات الواسعة، والموسيقى الميلودرامية، والنهاية التصالحية، وكأن الدراما السورية تحاول تهدئة جمهور متعب أكثر من استفزازه فكريا.
حقّق الموسم نجاحا في إعادة لمّ شمل المشاهد السوري والعربي حول الشاشة السورية، فعودة أسماء بعض النجوم خلقت نوعا من الثقة في “هوية الدراما السورية” بعد سنوات من التراجع أمام الإنتاج اللبناني والمصري والخليجي.
دراما 2026: موسم التجريب وإعادة التموضع
مؤشرات الموسم المقبل (رمضان 2026) تُظهر رغبة واضحة في كسر الجمود، ومن أصل 9 أعمال سورية قيد التحضير أو التصوير حتى نوفمبر 2025، هناك خمسة أعمال جديدة من حيث الموضوع والمعالجة:
- “مولانا” (تيم حسن × سامر البرقاوي) يتجه نحو الدراما الروحية-الوجودية، محاولا دمج الفلسفة الصوفية بالحبكة التشويقية.
- “مطبخ المدينة” لراشا شربتجي يعيد الاعتبار للدراما اليومية الواقعية، في مدينة تضجّ بالفوضى والعلاقات المتقاطعة.
- “النويلاتي” يعيد الحياة إلى البيئة الشامية، لكن عبر منظور نقدي أكثر وعيا بالسياق الطبقي.
- “لا زمان لا مكان” هو الأكثر حدة، حيث يتناول شهادات حقيقية عن المعتقلات والانقسام السوري، في بناء أقرب إلى الوثائقي.
- “عيلة الملك” يذهب نحو الدراما السياسية بطابع اجتماعي-تاريخي.
اعتمدت دراما 2025 “الحنين” كدرعٍ ضد الأسئلة، فإن دراما 2026 تحاول استخدام “التجريب” كسلاح لطرح الأسئلة ذاتها، فالشاشة السورية، بعد سنوات من المبالغة في الإبهار والدراما المنمّقة، بدأت اليوم تميل إلى البحث عن الصدق والمعنى أكثر من السعي وراء التأثير البصري.
يُلاحظ أيضاً دخول فئات عمرية أصغر في الكتابة والإخراج، ما يعكس انتقال “الملكية الرمزية للدراما” من جيل المخضرمين إلى جيل جديد أكثر انفتاحا على أشكال السرد الرقمية، فشركات مثل “كلاكيت ميديا” و”إيبلا” باتت تستثمر في نصوص جماعية تُكتب على طراز الـ Writer’s Room، ما يعني تحوّلا هيكليا في آليات صناعة المسلسل السوري.
المعادلة الإنتاجية: من المحلّي إلى العابر للحدود
من التحولات اللافتة إعادة انتشار الإنتاج السوري في السوق العربية، في 2025، كانت نحو 70% من الإنتاجات تموّل من داخل سوريا أو عبر شراكات جزئية مع قنوات عربية، أما مشاريع 2026 فتمول بمعظمها عبر شراكات لبنانية-خليجية، ما يعني عودة “الدراما السورية المشتركة” لكن على أسس أكثر احترافية.
تسعى الدراما الجديدة إلى تكييف الخطاب دون أن تفقد هويتها، فمثلا “مولانا” و”سكرة الحب” يتعاملان مع أسئلة الإيمان والعاطفة في مجتمعاتٍ هجينة، بينما “النويلاتي” يحاول إحياء البيئة الشامية دون التورّط في فلكلور مجاني، ما يعكس تحوّلا في وعي المنتج السوري بالهوية الثقافية؛ لم تعد “سوريا” موقعا جغرافيّا داخل النص، بل شيفرة رمزية لأسئلة ما بعد الصراع.
منطق السرد: ما بعد البطولة الفردية
في دراما 2025 ظلّ النموذج السائد هو “البطل الواحد”؛ الرجل الذي ينقذ العائلة أو القرية أو المدينة (“البطل”، “السبع”)، أمّا في دراما 2026، فهناك انزياح واضح نحو السرد الجماعي عبر تعدّد الشخصيات الأصوات وتوزيع البطولة على أكثر من محور.
هذا التحول ليس شكليا فحسب؛ بل يعكس تحوّل الوعي الاجتماعي السوري من انتظار “المنقذ” إلى إدراك التعقيد البنيوي للحياة اليومية بعد الحرب.
لغة الصورة والموسيقى
جماليا، كانت دراما 2025 تفضّل اللقطات الحنينية الدافئة، والإضاءة المائلة إلى الأصفر الداكن، في حين تتجه أعمال 2026 إلى الضوء الطبيعي والكادر المتوتر، فالكاميرا في “لا زمان لا مكان” مثلا تُستخدم كعين توثيقية تهتز وتقترب من التفاصيل، في انزياح عن التجميل إلى الواقع.
في الموسيقى أيضاً نلحظ تغيرا، فمن الموسيقى الأوركسترالية الضخمة إلى التيمات الصوتية المستمدة من الحياة اليومية، هذا يتوافق مع “جمالية الضجيج الحقيقي”.
التلقي والجمهور
إحصاءات المشاهدة الرقمية تشير إلى أن 60% من المشاهدين السوريين تحت سن 35 باتوا يتابعون المسلسلات عبر الإنترنت أو المنصات، لا عبر القنوات التقليدية، لذلك نرى توجهاً في 2026 نحو إنتاجات قصيرة أو نسخ متكاملة للعرض الرقمي Mini-Series و Web-Drama.
هذا التحول في المنصة يعني أيضاً تحوّلا في الخطاب، فالجمهور الجديد لا يبحث عن “أبطال”، بل عن تجارب يمكن تصديقها، وهنا يظهر سؤال جوهري؛ فهل ستستطيع الدراما السورية أن تنتقل من “سردية الوطن الضحية” إلى “سردية المواطن الفاعل”؟
ما وراء الشاشة: الدراما كسياسة ناعمة
من منظور أوسع، تعكس هذه التحولات توازنات السياسة والثقافة، فمع خروج سوريا جزئياً من العزلة العربية، هناك رغبة في استخدام الدراما كأداة لاستعادة السردية الوطنية، غير أن هذا المشروع تحدي المنافسة الإقليمية الشديدة من المنصات الخليجية والمصرية.
لكن إذا استطاعت الدراما السورية أن تقدّم سردية محلية ذات صدقية، فستستعيد دورها التاريخي كمركز جاذب للذوق العربي، كما كانت في “زمن الواقعية الدمشقية” مطلع الألفية.
نحو “دراما ما بعد المأساة”
في التحليل الأخير، يمكن القول إن دراما 2025 كانت دراما ذاكرة؛ أما دراما 2026 فهي دراما وعي. الأولى انشغلت بما فُقد، والثانية تحاول فهم ما تبقّى، وهذا الفارق ليس فقط في الموضوع، بل في الإيقاع والنبرة والعين التي ترى.
وكما كتب جيمس بونيوزيك ذات مرة عن التلفزيون الأمريكي بعد 11 أيلول “حين يهدأ الانفجار، تبدأ الحكاية الحقيقية”.
يبدو أن الدراما السورية تدخل الآن هذه المرحلة بالضبط مرحلة الحكاية الحقيقية التي تُروى بلا بطولة زائفة، بلا تبرير، بل برغبةٍ في الفهم.
بين موسم 2025 الذي مثّل ذاكرة الجرح”، وموسم 2026 الذي يريد بـ”إعادة التوازن”، تمتدّ مسافة وعي كاملة، الدراما السورية صارت مختبرا لفهم ما حدث وما يمكن أن يحدث، وعليها أن تكون مرآة لا تعكس الصورة بل تكسرها لتعيد ترتيبها من جديد.
وفي كسر تلك الصورة، ربما تبدأ سوريا، فنيا وثقافيا، رحلة الشفاء الحقيقية.
الدراما السورية بين موسمي رمضان 2025 و2026
من “الجرح المفتوح” إلى “إعادة التوازن” – رحلة تحول في السرد والهوية
مقارنة المحتوى بين الموسمين
نسبة الأعمال حسب الزمن الذي تتناوله (رمضان 2025)
رمضان 2025: موسم الذاكرة المثقوبة
- نحو 13 عملاً سورياً رئيسياً
- 58% من الأعمال تناولت الزمن الماضي أو ما قبل الحرب
- 22% فقط انخرطت في قضايا راهنة
- هيمنة جمالية للمنتج على المؤلف
- اللغة البصرية المألوفة والنهاية التصالحية
- نجاح في إعادة لمّ شمل المشاهد السوري والعربي
أبرز الأعمال:
رمضان 2026: موسم التجريب وإعادة التموضع
- 9 أعمال سورية قيد التحضير
- 5 أعمال جديدة من حيث الموضوع والمعالجة
- انزياح نحو السرد الجماعي متعدد الأصوات
- دخول فئات عمرية أصغر في الكتابة والإخراج
- تحول في آليات صناعة المسلسل السوري
- توجه نحو إنتاجات قصيرة للعرض الرقمي
أبرز الأعمال المتوقعة:
مقارنة نمط السرد بين الموسمين
مصادر التمويل للموسمين
التحول الجوهري: من دراما الذاكرة إلى دراما الوعي
تمثل الدراما السورية بين الموسمين مسافة وعي كاملة، حيث تنتقل من الانشغال بما فُقد إلى محاولة فهم ما تبقّى. هذا الفارق ليس فقط في الموضوع، بل في الإيقاع والنبرة والعين التي ترى.
بين موسم 2025 الذي مثّل “ذاكرة الجرح”، وموسم 2026 الذي يريد “إعادة التوازن”، صارت الدراما السورية مختبراً لفهم ما حدث وما يمكن أن يحدث. عليها أن تكون مرآة لا تعكس الصورة بل تكسرها لتعيد ترتيبها من جديد.

