الأموال السورية المجمّدة في لبنان: قرار مصرف سورية المركزي يحوّل الانكشاف المالي إلى خسارة سيادية

لم يكن قرار مصرف سورية المركزي الصادر في 22 أيلول إجراء تقني كما تم تقديمه في نصوصه الرسمية، بل تحوّل هيكلي في الطريقة التي تتعامل بها الدولة مع أزمتها المصرفية المزمنة.

القرار الذي كشف عنه تقرير رويترز الأخير، يقضي بإلزام البنوك السورية بالاعتراف الكامل بخسائرها الناتجة عن ودائعها في لبنان، وتحويل هذه الأموال من بند “الأصول” إلى بند “الخسائر المحققة”، مع مهلة لا تتجاوز ستة أشهر لإعادة رسملة أو إعادة هيكلة الميزانيات.

بلغة الاقتصاد المالي فالنظام السوري قرّر شطب ما يزيد على 1.6 مليار دولار من دفاتر بنوكه التجارية، وإعادة توزيع الأعباء الناتجة عن ذلك داخل المنظومة المالية نفسها، من دون المرور عبر أي تسوية قانونية أو تشريعية أو حتى تفاوض سياسي مع الدولة اللبنانية.

من الأزمة اللبنانية إلى الانكشاف السوري

حين انهار النظام المصرفي اللبناني عام 2019، بفعل عقود من سوء الإدارة والعجز المالي وتثبيت سعر الصرف الوهمي، وجد السوريون أنفسهم جزءا من الكارثة، فمنذ عام 2005 على الأقل، اعتمدت المصارف السورية، بتشجيع غير معلن من الحكومة، على لبنان بوصفه “الرئة المالية” التي تتنفس منها أموال السوريين، فالتحويلات، والتمويل خارجي، والودائع تجارية، وحتى احتياطيات نقدية.
كانت بيروت تؤدي وظيفة البنك المركزي الموازي لاقتصاد محاصر، وأصبحت ملاذا لتجاوز العقوبات، ومصدر للدولار، ووسيط للتجارة الإقليمية.

لكن ما كان يُعدّ حلا مؤقتا تحوّل بعد 2019 إلى فخ بنيوي، فانهار القطاع المصرفي اللبناني فجأة، وتحوّلت الحسابات السورية إلى أرقام معلّقة في الفراغ، ولم يعد بإمكان أي مصرف سوري سحب أمواله، ولا حتى تحديد مصيرها القانوني، وظلّ “التعرّض للنظام المالي اللبناني”، وهو المصطلح الذي استخدمه المركزي نفسه، أشبه بـ”الثقب الأسود” في قلب القطاع المصرفي السوري.

شطب الخسائر: إصلاح أم دفن جماعي؟

القرار الجديد يعني أن المصارف السورية باتت مطالبة بالاعتراف بأن تلك الأموال لم تعد موجودة فعلا، وخرجت من “أصول قيد التحصيل” كما كانت تُدرج في ميزانياتها، إلى “خسائر نهائية”، فتنتقل الدولة من مرحلة الإنكار إلى مرحلة “التحقق المحاسبي”، لكن بثمن فادح.

كل مصرف سوري معني بالقرار سيُجبر على تكوين مخصصات تعادل كامل قيمة أمواله المجمّدة في لبنان، أي نحو100 %  من انكشافه المالي، وهذا يعني خفضا حادا في رأس المال، وربما الوصول إلى العجز أو الإفلاس في بعض الحالات، والمصارف التي لن تتمكن من زيادة رأسمالها خلال المهلة المحددة، ستضطر إلى الاندماج أو البيع أو الخروج من السوق.

وبدلا من أن تتحمل الدولة مسؤولية التفاوض أو المقايضة مع الجانب اللبناني لاسترداد الأموال، تُحمّل المصارف وحدها كامل الكلفة، رغم أن تلك الودائع أودعت أصلا بتشجيع رسمي وضمن سياسة مالية شبه معلنة.

التناقض البنيوي في العلاقة السورية-اللبنانية

ليست هذه المرة الأولى التي يُدفع فيها القطاع الخاص السوري ثمن السياسات العامة، العلاقة المالية بين دمشق وبيروت كانت دائما مشوبة بالازدواج، من اعتماد اقتصادي من جهة، وإنكار مؤسسي من جهة أخرى.

فبينما كانت النخبة الاقتصادية السورية تنقل أموالها إلى لبنان بحثا عن الأمان القانوني والمرونة المصرفية، كانت الدولة تغضّ الطرف، بل تستفيد ضمنيا من هذا المسار الذي سمح لها بتدوير العملة الصعبة خارج حدودها، وبعد أن احترق الجسر اللبناني، تريد دمشق “تنظيف دفاترها” بسرعة، حتى لو كان ذلك يعني إعلان وفاة مالية جماعية لمصارفها.

اللافت أن القرار السوري جاء متزامنا تقريبا مع مساعي لبنان لإقرار ما يسمى “قانون الفجوة المالية”، الهادف إلى تحديد كيفية توزيع الخسائر داخل نظامه المصرفي، وبينما يخضع القرار اللبناني لنقاش برلماني شائك، جاء القرار السوري كتعميم إداري من المصرف المركزي، أي من دون أي غطاء تشريعي أو مساءلة عامة.

من الرقابة إلى السيادة

ما فعله المصرف المركزي السوري يتجاوز، من حيث المبدأ، حدود الوظيفة التنظيمية المعتادة، فالمصارف المركزية في العالم تُعنى بالسيولة، والاستقرار المالي، والسياسة النقدية، لكنها لا تملك صلاحية تغيير القيمة القانونية للأصول الخاصة إلا في إطار قانوني أوسع.
حين يُلزم المركزي المصارف بالاعتراف بخسائر خارجية، فإنه لا ينظّم، بل يشرّع ويعيد توزيع الملكية والحقوق، وهذا، في جوهره، عمل سيادي لا يختص به بنك مركزي بل دولة كاملة.

الأموال السورية في لبنان، سواء أكانت ودائع مصرفية أم أرصدة تجارية ، تمثّل جزءا من الثروة الوطنية، ومآلها شأن سيادي بامتياز، وكان من المفترض أن يُعالج الملف عبر مفاوضات رسمية بين البلدين أو ضمن إطار قانوني دولي، لا عبر قرار إداري يُصدره موظف مصرفي مهما علا منصبه.

الاقتصاد السياسي للقرار

من الصعب تجاهل الطابع السياسي للخطوة، فالقرار صدر في صمت تام، من دون إعلان رسمي أو تعليق من المصارف المعنية، وتقرير رويترز أشار إلى أن حتى المصرفيين الذين تحدّثوا رفضوا الكشف عن أسمائهم، في دلالة على حالة تكميم وتوجّس داخل القطاع.

المركزي أراد “تصفير” ملف لبنان تمهيدا لإعادة هيكلة أوسع للنظام المالي، وربما لتسهيل دخول شركاء عرب جدد، وذكر التقرير أن بعض المصارف السورية بدأت محادثات أولية مع مؤسسات مصرفية في الأردن والسعودية وقطر حول صفقات محتملة.
لكن هل يمكن بناء نظام مصرفي جديد فوق خسائر غير معترف بها سياسيا؟ وهل يمكن جذب رؤوس أموال جديدة إلى سوق تُدار قراراتها بهذا الشكل الإداري المغلق؟

الاستقرار المالي لا يتحقق عبر محو الخسائر من الدفاتر، بل عبر الشفافية، والاعتراف المتبادل بالمخاطر، وتوزيعها بعدالة عبر النظام المالي بأكمله، و ما حدث في سوريا هو العكس تماما، فتم تحويل الخسارة الجماعية إلى صدمة انتقائية تقع على الحلقة الأضعف من البنوك التجارية الصغيرة والمودعين المحليين.

الصمت اللبناني وصفقة الظل

يبقى السؤال الجوهري: هل هناك صفقة غير معلنة بين دمشق وبيروت؟
التوقيت والسياق يؤشران بذلك، فالمصارف اللبنانية، التي ما تزال تبحث عن مخرج من أزمتها، رأت في هذا القرار السوري اعترافا ضمنيا بشرعية خسائرها، أي أن الجانب السوري “تنازل” عمليا عن المطالبة بأمواله. بالمقابل، يحصل المركزي السوري على دفاتر نظيفة وقطاع مصرفي “مُعافى محاسبيا”، حتى وإن كان منهكا واقعيا، إنها صفقة تبادلية تحمل خسارة مقابل استقرار وهمي.

إلى أين؟

من الناحية المحاسبية، يبدو القرار خطوة نحو “التنظيف المالي”، لكن من الناحية الاقتصادية الأعمق هو اعتراف ضمني بانكسار نموذج الاعتماد السوري على الخارج.
انهار “الجيب المالي اللبناني” الذي اعتمدت عليه دمشق لعقود، ولم تنجح الدولة حتى الآن في بناء بديل مؤسسي أو قانوني يعيد الثقة بالقطاع المالي الداخلي.
خلال الأشهر المقبلة، من المتوقع أن نشهد هزات داخلية في عدد من المصارف السورية، وربما عمليات اندماج قسرية أو تصفيات صامتة، والأهم، أن الثقة بين المودع والمصرف، وهي العملة الحقيقية لأي اقتصاد، ستتعرض لمزيد من التآكل.

اقتصاد الظل ينتصر

لم تكن أزمة الأموال السورية في لبنان مجرد حادث جانبي في الأزمة اللبنانية، بل مرآة مكبّرة لخلل بنيوي في الاقتصاد السوري نفسه.
فما بدأ كاستثمار خارجي آمن تحول إلى ورطة سيادية، وما اعتبر خطوة إصلاحية صار بمثابة إعلان إفلاس منهجي.

“الأنظمة المالية لا تنهار فجأة، بل تنهار حين يتفق الجميع على إنكار الحقيقة نفسها”، وفي الحالة السورية فإن الحقيقة التي أنكرها الجميع لسنوات هي أن أموال السوريين في لبنان كانت خارج السيادة السورية منذ اليوم الأول.
الآن فقط، وبعد أن تحوّلت من «أرصدة» إلى «صفر»، بات الاعتراف ممكناً، لكنه اعتراف جاء متأخراً، ومكلّفاً، وربما بلا عودة.

توزيع الآثار على القطاع المصرفي السوري

المصارف الكبيرة 40% تأثر
المصارف المتوسطة 70% تأثر
المصارف الصغيرة 90% تأثر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *