سوريا بين الجغرافيا والسردية: حدود القوة وإمكانات الدولة

كل أمة تُولد من جغرافيا، لكن سوريا تبدو وكأنها وُلدت من صراع بين أربع جغرافيات متنازعة، فمنذ أن رُسمت حدودها الحديثة، ظلت البلاد تحاول أن تكتب سرديتها الوطنية فوق أرضٍ لا تهدأ؛ أرضٍ تقع على مفترق البحر والصحراء، والشمال والجنوب، حيث يتقاطع الانفتاح مع العزلة، والتاريخ مع الجيولوجيا.
هنا بالتحديد يتبدّى “قدر الجغرافيا”¹ فالمكان لا يكتفي بأن يحتضن السياسة، بل يصوغها.

سوريا كعقدة جيوبولتيكية

تقع سوريا في نقطة التقاء أربع كتل جيوبوليتيكية كبرى، ما يجعلها عقدة توازن لا مركز استقرار، فمن الغرب، يفتح البحر المتوسط نوافذها على العالم، لكنه أيضا بوابة الأطماع التاريخية، ومن الشرق، تمتد الصحراء كفضاء مفتوح للفوضى، لا يعترف بالحدود ولا بالسلطة.
أما الشمال، فينحدر من الهضبة الأناضولية نحو سهول الفرات، حيث تتشابك الذاكرة العثمانية بالواقع الكردي والمصالح التركية الحديثة، وفي الجنوب، تمتد سهول حوران إلى تخوم الأردن وفلسطين، حيث يختلط الجغرافيا بالعقيدة، والصراع القومي بالتاريخ.

هذه التكوينات جعلت سوريا نقطة تماس دائمة بين الحضارة المتوسطية والحضارة الصحراوية، وهي ثنائية لم تنجح أي سلطة في تجاوزها، فالدولة كانت دائما تحكم بحدودها، لا داخلها.

الجغرافيا المزدوجة: البحر والصحراء

هذا التقاطع بين البحر والصحراء أنتج شخصية سياسية مزدوجة؛ منفتحة في أوقات الازدهار، ومنكفئة في لحظات الخوف، فالبحر منحها التعدد والانفتاح والتجارة، بينما فرضت الصحراء عليها الانغلاق والسلطة الأبوية.
من هذا التوتر وُلدت الشخصية السورية السياسية التي تتأرجح بين المدنية والريف، والدولة المركزية والمجتمع المتحرر، وفي العمق، لم تكن الجغرافيا مجرّد خلفية للهوية، بل قوة مولّدة للسرديات، فالساحل أنتج وعيا حذرا، والداخل الريفي صاغ وعيا محافظا متجانسا، أما الشمال فكان دائما مساحة للتمازج والاضطراب الإثني.
لم تُمنح سوريا هوية جغرافية جاهزة، بل كان عليها أن تصنعها سياسيا، هنا بالتحديد يتبدّى معنى السردية الوطنية الجامعة في بناء الوحدة لا على التشابه، بل على إدارة الاختلاف.

الجغرافيا كمصدر للصراع

من منظور الجيوبولتيك الكلاسيكي (ماكيندر، سبيكمان، كابلان)، تقع سوريا في ما يُعرف بـ الحافة المشرقية (Rimland)، وهي المنطقة التي تفصل قلب آسيا اليابس عن البحار المفتوحة، فهي ليست دولة محاطة بحدود، بل ممرٌّ بين الإمبراطوريات، ومن يسيطر عليها يمتلك مفاتيح العبور بين الخليج والمتوسط، ويتحكم في طرق الطاقة والممرات التجارية، لهذا كانت دائما ميدان اختبار لإرادات القوى الكبرى.
تتقاطع فيها مصالح إيران وتركيا وروسيا والغرب، وفيها تُختبر حدود الشرق الأوسط ذاته، لكن هذا الدور الجغرافي لم يكن مجرد قدر خارجي، بل انعكس داخليًا كصراع على تعريف الهوية الوطنية، فمن يملك الجغرافيا، يملك الحكاية.

الجغرافيا والسردية السياسية

الجغرافيا السورية تقع على تقاطع البحر والصحراء، والشمال والجنوب وهي ليست تضاريس فقط، بل نصف المأزق البنيوي للسردية الوطنية السورية، فالبلاد عجزت عن إنتاج سردية جامعة لأن كل محور جغرافي فيها يجرّها نحو سرديته الخاصة.
البحر يدفعها نحو الانفتاح والعلمانية، والصحراء نحو الانغلاق والمحافظة، والشمال نحو العثمانية والإسلام السياسي، والجنوب نحو العروبة والمجتمع العشائري، فيصبح التاريخ السوري سلسلة محاولات لإخضاع المكان للمعنى.
حاول البعث أن يوحّد البلاد بخطاب قومي يربط الداخل بالجنوب، لكن السيطرة بقيت أفقية، لا عمودية، وحين جاءت المعارضة الإسلامية بعد 2011، حاولت أن تخلق سردية تربط الصحراء بالمدينة، لكنها فقدت البحر والشمال كرموز للانفتاح والتنوّع.
أما القوى الكردية، فربطت الشمال بالشرق، لكنها انقطعت عن المركز السياسي والرمزي للبلاد، وفي النهاية أثبتت الجغرافيا أنها أقوى من الأيديولوجيا، فلا البحر يصبح صحراء، ولا الجبل سهلا، ولا المركز يستطيع حكم الأطراف إلى الأبد².

التحول الجيوبولتيكي بعد 2015

بعد التدخل الروسي، تبلورت معادلة جيوبولتيكية رباعية ترجمت فعليا انقسام الجغرافيا السورية:

  • المجال الروسي – الساحلي عبر نفوذ بحري طويل المدى.
  • المجال الإيراني – البادية وهو ممر بري من طهران إلى بيروت.
  • المجال التركي – الشمالي عبر نفوذ عسكري واقتصادي.
  • المجال العربي – الجنوبي من خلال حضور يتراوح ما بين الاشتباك والدبلوماسية.

في هذه الخريطة، لم تعد السيادة السورية مطلقة، بل موزعة وفق منطق المكان لا الدولة، فتعايشت القوى المختلفة داخل “سوريا المفيدة” دون اتفاق سياسي، بل لأن الجغرافيا نفسها فرضت هذا التوازن القسري³.

نحو سردية وطنية جديدة

ما تكشفه الجغرافيا السورية هو أن الهوية ليست معطى ثقافيا فقط، بل توازن جيوبولتيكي دائم بين جهات البلاد الأربع، وكل محاولة لإلغاء أحد أبعادها تفضي إلى تمزق السردية الوطنية، وأي مشروع وطني جديد يمكن أن يبدأ من الاعتراف بالمكان لا إنكاره.

السردية الوطنية الجامعة لا تُبنى بشعارات الوحدة، بل بإدارة التنوّع الجغرافي ضمن مشروع متعدّد الأقطاب
يجعل الساحل بوابة للعالم، والداخل الزراعي قاعدة للاقتصاد، والبادية فضاءً للترابط الإقليمي، والشمال محور تواصل مع الأناضول وآسيا، وهذه الصيغة استطاع الرئيس حافظ الأسد لعبها بمهارة لفترة من الزمن.
بهذه الصيغة، يمكن تحويل الجغرافيا من قدرٍ إلى استراتيجية توازن، ومن عامل انقسام إلى ذاكرة جامعة تروي حكاية واحدة بأصوات متعددة.

سوريا ليست بلدا عاديا في الشرق الأوسط، بل مفصل جغرافي يصنع مصير السرديات من حوله، فلم تكن دولة في مكان، بل مكانا يصنع دوله ثم يبتلعها، لكن هذا التعدد ليس لعنة، بل فرصة أخيرة لإعادة بناء الوطنية السورية على أسس جغرافية واقعية.

الجغرافيا السورية ومصير السردية الوطنية

البحر المتوسط

الانفتاح – التعدد – التجارة

الصحراء

الانغلاق – السلطة الأبوية – المحافظة

الشمال (الأناضول)

التمازج الإثني – الإسلام السياسي

الجنوب (حوران)

العروبة – العشائرية

📊 توزيع التأثير الجغرافي على السردية الوطنية

البحر المتوسط (انفتاح) 35%
الصحراء (انغلاق) 30%
الشمال (تمازج إثني) 20%
الجنوب (عروبة وعشائرية) 15%

⚖️ توازن القوى الجغرافية الأربع

سوريا
🌊
البحر
🏜️
الصحراء
⛰️
الشمال
🌾
الجنوب

“التوازن الجيوبوليتيكي: كل قوة جغرافية تجذب السردية الوطنية نحو محورها، والاستقرار يتحقق بإدارة هذا التنوع لا بإلغائه”

“سوريا عُقدة جيوبوليتيكية: نقطة توازن لا مركز استقرار، حيث يتقاطع الانفتاح مع العزلة، والتاريخ مع الجيولوجيا.”

التوازن الجيوبوليتيكي بعد 2015

  • المجال الروسي – الساحلي: نفوذ بحري طويل المدى
  • المجال الإيراني – البادية: ممر بري لطهران
  • المجال التركي – الشمالي: نفوذ عسكري واقتصادي
  • المجال العربي – الجنوبي: حضور دبلوماسي وعسكري

نحو سردية وطنية جديدة

البناء على إدارة التنوع الجغرافي بدلاً من إنكاره:
تحويل الجغرافيا من قدر إلى استراتيجية توازن، ومن عامل انقسام إلى ذاكرة جامعة.

مصدر التصميم: ملخص بصري لمقال “الجغرافيا السورية ومصير السردية الوطنية”

الهوامش

  1. روبرت كابلان، انتقام الجغرافيا: ما تخبرنا به الخرائط عن الصراعات القادمة والتحديات ضد المصير، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2015.
  2. عزمي بشارة، سوريا: درب الآلام نحو الحرية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2013.
  3. مروان قبلان، “سوريا ومعادلات الجغرافيا السياسية”، مجلة سياسات عربية، العدد 22، الدوحة، 2016.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *