الجغرافيا التي تروي الحكاية
كل سردية كبرى تحتاج إلى أرض تتنفس منها، فالمكان ليس فقط فضاء الحدث، بل الشرط1 الذي يمنحه معنى، وفي سوريا، لم تكن الحكاية الوطنية منذ الاستقلال سوى محاولة متكررة لكتابة التاريخ على جسد جغرافيا متمرّدة.
كانت البلاد منذ تشكّل الدولة الحديثة في مطلع القرن العشرين، تحمل في طياتها2 تناقضين متلازمين؛ الرغبة في توحيد المعنى السياسي، وجغرافيا ترفض الانصياع، ولأن الجغرافيا السورية تقع على تقاطع البحر والصحراء، والشمال والجنوب، الشرق والغرب، فإنها ولّدت وعيا وطنيا قلقا، يبحث عن وحدة رمزية تعيد وصل ما فرّقته الطبيعة.
هذه المحاولة الدائمة لإنتاج سردية جامعة كانت، في حقيقتها، مجهودا لترويض الجغرافيا بالمعنى، لكن المكان ظلّ أقوى من الخطاب، حتى بدا وكأنّ الأرض السورية نفسها تقاوم أن تُختزل في قصة واحدة.
حين اندلعت الاضطرابات عام 2011، بدا أن تلك السردية تخضع لاختبار جديد، وتدخلت الجغرافيا لتذكّر الجميع أن المعنى لا يعيش في الفراغ، فما إن تمدّد الحدث خارج المدن الأولى حتى بدأت اللغة تنكسر أمام التضاريس، وبدأت السردية السورية³ تتفكك على إيقاع المكان، كأنّ الأرض نفسها تعيد توزيع الأدوار والولاءات.
الجغرافيا كحاضنة للسردية الوطنية
قبل 2011، كانت السردية السورية3 الجامعة تقوم على ثلاثة أعمدة جغرافية واضحة؛ العاصمة بوصفها مركز العقل السياسي، الساحل بوصفه الحاجز الدفاعي والعمق الاستراتيجي، والداخل الزراعي بوصفه قاعدة الإنتاج الوطني.
هذا التوازن خلق نوعا من التماثل الرمزي بين الدولة والمكان، فدمشق تمثل السلطة، وحلب تمثل السوق، والريف يمثل الأمة الصامتة، وهذا التوازن فرضه النمط التاريخي للحكم المركزي، وحين انهار المركز، انكشف فسيفساء من الأمكنة تحمل حكايات متناقضة عن الوطن الواحد، وغدت سوريا مجموع خرائط، كل واحدة تروي سردية مختلفة، ففي الساحل وُلد خطاب الاستقرار، وفي الشمال، خطاب الثورة، وفي الشرق، خطاب الفيدرالية وفي الشتات، خطاب الحنين.
تراجعت فكرة السردية الجامعة التي كانت تمنح السوريين شعورا بالانتماء إلى قصة واحدة، واستعادت الجغرافيا سلطتها، وفرضت قانونها البارد، فلكل مكان روايته الخاصة، ولكل رواية حدودها الجغرافية.
كيف كسرت الجغرافيا وحدة الحكاية
في اللحظات الأولى تم تصوير مسألة “الثورة” كلغة موحدة تدفع السوريين للتحدث بلسان واحد، لكن الصراع بذاته كشفت الفوارق المكانية التي كانت مستترة تحت السطح، فالمدن الكبيرة مثل دمشق وحلب لم تتحدث بالطريقة نفسها التي تحدثت بها درعا أو إدلب أو دير الزور،
في الجغرافيا السورية، الفضاء ليس متجانسا، بل محكوم بذاكرة عميقة من المركزية، هذه الذاكرة المكانية كانت وراء انقسام الحكاية إلى سرديات فرعية، ففي المدن، صار معنى الثورة دفاعا عن البقاء في وجه الفوضى، وفي الريف تحول إلى عقدة نقص المدينة وفي الشمال أصبح أداة لصراع القوى الإقليمية.
فعلت الجغرافيا بالثورة ما تفعله الجاذبية بالأجسام، فأعادتها إلى واقعها، وأجبرت التحرك السياسي على التكيف مع الأرض التي يقف عليها، وتراجعت السردية الجامعة التي بدأت بلغة أخلاقية، لتحلّ محلها سرديات جغرافية متباينة، كل واحدة تملك قاموسها الخاص عن الحرية والوطن والعدالة.
الجغرافيا كسردية للسلطة
منذ استلام البعث4 الحكم عام 1963، حاولت الدولة بناء سرديتها على قاعدة “الوحدة والتحرير”، فأرادت دمج الجغرافيا الوطنية ضمن معنى سياسي يتجاوز الطوائف والأقاليم، لكنّ هذه السردية ظلت معلّقة بين الخطاب والواقع، لأنها تجاهلت منطق المكان نفسه.
كانت الجغرافيا السورية مركّبة على نحو يصعب إخضاعها لسلطة مركزية دون استخدام العنف، فحين حكمت الدولة من دمشق، بدت المدن البعيدة كأنها عوالم أخرى، وحين توسّع نفوذها نحو الأرياف، واجهت مقاومة صامتة من مجتمع يختلف عنها في البنية والعقل.
كانت السردية الرسمية نفسها فعلا جغرافيا خطرا، فهي سردية المركز الذي يرى الأطراف هامشا، ورواية السهل في مقابل الجبل والعاصمة أمام واقع الريف، وحين انفجرت البلاد لم يكن ما انهار مجرد نظام، بل التوازن المكاني للسلطة، فانكشفت الفجوة بين الجغرافيا التي تُدار بالقوة والسردية التي تُروى بالكلمات،
وهذا ما سمح للجغرافيا، مرة أخرى، أن تنتقم من المعنى.
تفكك السردية الجامعة كأثر جغرافي
حسب كابلان فإن “المكان حين يفقد الانضباط يتحول إلى ذاكرة عنيفة”، وهذا ما حدث في سوريا، فحين خرجت الجغرافيا عن سيطرة الدولة، لم تعد الأرض حاملة للمعنى الوطني، بل أصبحت منتجة لمعان متناقضة، وتحول المكان من فضاء للحكاية الواحدة إلى مسرح لصراع السرديات.
هذا التفكك لم يكن فكريا فقط، بل ماديا، كل منطقة صارت تملك أعلامها، وأناشيدها ومناهجها التعليمية وطقوسها الرمزية، ولم يعد “الوطن” فكرة مجردة، بل تجربة مكانية تختلف من محافظة إلى أخرى، فالبلاد لم تنقسم إلى مناطق نفوذ فقط، بل إلى عوالم رمزية منفصلة، فكل عالم يروي ذاته كأنه هو “سوريا الحقيقية”.
عادت الجغرافيا إلى لعب دور الفيلسوف الصامت، ولتذكر الجميع بأن السردية الجامعة لا تُبنى على الشعارات، بل على اعترافٍ بالاختلاف المكاني، فمن دون توزيع عادل للسلطة والموارد والمعنى،
لن تستعيد البلاد وحدتها مهما تغيّرت الأنظمة.
الجغرافيا كشرط لإعادة بناء السردية
إذا كانت السردية السورية تفككت بفعل الجغرافيا، فإن استعادتها لا يمكن أن تتم إلا من خلالها أيضا، فلا يمكن كتابة حكاية وطنية جديدة تتجاهل التضاريس التي أعادت تعريف المجتمع السوري، وبناء سردية جامعة في سوريا اليوم يعني تحويل الجغرافيا من لعنة إلى لغة،
فالفعل الحقيقي هو الانتقال من مساحة تقسيم إلى فضاء تفاهم عبر خطاب جديد يعترف بالمكان بوصفه ذاكرة أخلاقية لا مجرد أرضٍ للسيطرة، فالمطلوب سردية ترى في التنوع الجغرافي مصدر ثراء، لا تهديدا، وفي اختلاف البيئات السياسية والاجتماعية مادة لبناء هوية مركبة.
الجبال التي كانت رمزا للانغلاق يمكن أن تصبح رمزا للحماية، والسهول التي كانت رمزا للضعف يمكن أن تتحول إلى رموز للانفتاح، وبهذا الفهم، يمكن للسردية السورية الجديدة أن تقوم على مصالحة مع الجغرافيا، بدل محاولة نفيها كما فعلت السرديات القديمة.
السردية السورية في مواجهة السرديات الإقليمية
حاولت القوى الإقليمية أن تكتب قصتها الخاصة على الجغرافيا السورية، فكل طرف أعاد تعريف “المعنى السوري” وفق مصالحه، فإيران تحدثت عن محور المقاومة، وتركيا عن الثورة واللاجئين، وروسيا5 عن الحرب على الإرهاب، والغرب عن حقوق الإنسان.
هذه السرديات الخارجية استندت كلها إلى تأويلات جغرافية، فمن يسيطر على أي منطقة يزعم أنه يملك حق الكلام باسمها، وتحوّل الصراع من نزاع سياسي إلى حرب سردياتٍ متجسدة في المكان، وبين هذه الروايات المتنافسة، اختفى الصوت السوري الأصلي.
مهمة استعادة السردية السورية الجامعة تبدأ من استعادة الجغرافيا الرمزية للبلاد، ومن إعادة تعريف العلاقة بين الإنسان ومكانه، فلا يمكن للسوري أن يروي حكايته إن لم يستعد الأرض التي تُروى عليها، ولا يمكن للوطن أن يعود إذا بقيت خريطته في أيدي الآخرين.
السردية الجامعة كمشروع مكاني
السردية الجامعة ليست شعارا أدبيا، بل مشروع مكاني يعيد ترتيب العلاقة بين الفضاءات، فهو محاولة لجعل السوريين يشعرون أن البلاد شبكة من الأمكنة المتكافئة، وليست سلما هرميا من المركز إلى الهامش.
تتحقق هذه السردية عندما تتغير بنية التفكير بالدولة ذاتها، فتُعاد صياغة السيادة بحيث تكون موزعة وظيفيا لا متمركزة، فتُمنح المناطق قدرة على التعبير عن خصوصيتها دون أن تفقد انتماءها العام، وهذا ليس تفككا بل إعادة هندسة للانتماء الوطني على قاعدة الجغرافيا لا ضدها.
السردية السورية³ الجديدة لن تكون سردية خطاب، بل سردية توزيع للمعنى كما توزّع السلطة وللذاكرة كما توزّع الموارد، وحينها فقط يمكن أن تعود الحكاية السورية إلى وحدتها دون إلغاء اختلافها.
من الجغرافيا إلى الوعي: نحو سردية الأرض المشتركة
الدرس الأعمق الذي تكشفه الجغرافيا السورية هو أن المعنى لا يُبنى فوق الأرض إلا إذا تحوّل إلى وعي بها، فالسوريون عاشوا عقودا يتحدثون عن “الوطن” وكأنه فكرة في السماء، لكن الحرب أعادتهم إلى الخرائط الصغيرة التي تحدد مصيرهم اليومي.
من هذا الواقع الصعب يمكن أن تولد سردية الأرض المشتركة، فهي حكاية لا تمجّد السلطة ولا المعارضة، بل الإنسان الذي ظلّ مخلصا لمكانه رغم كل الخرائط التي مزّقته، وهذه السردية الجديدة لا تحتاج إلى بطل واحد، بل إلى شبكة من الأصوات التي تتحدث من أماكنها، من جبلٍ أو نهرٍ أو مخيم، لتقول نحن جميعا من هذه الأرض، مهما اختلفت الجهات التي تسكننا.
حين تتحول الجغرافيا إلى معنى
ربما كانت الجغرافيا في سوريا قدرا قاسيا، لكنها في النهاية قدر ينتظر من يفسّره، فإذا كانت الحكاية الواحدة تم تمزيقها، فهي أيضا تملك القدرة على الجمع من جديد بشرط أن تُفهم، فالسردية السورية³ الجامعة ليست قصة عن الماضي، بل طريقة في النظر إلى المكان، ورؤية أخلاقية للعيش على أرضٍ متعددة الأصوات.
حين يدرك السوريون أن الجغرافيا ليست عدوهم بل مرآتهم، يمكن أن يبدأوا بكتابة سردية جديدة لا تقوم على الغلبة، بل على الاعتراف المتبادل بأن الأرض تسع الجميع، يصبح التفكير بأن الجغرافيا هي مصير السردية السورية³ ليس تشاؤما، بل دعوة إلى أن يستعيد المعنى مكانه، وتتحول الخرائط من أدوات حرب إلى نصوص للذاكرة، ومن خطوط فصل إلى شرايين حياة.
تطور السردية الوطنية السورية
- روبرت كابلان، انتقام الجغرافيا: ما يخبرنا به الخرائط عن الصراعات القادمة والتحديات ضد المصير، ترجمة حسام نايل، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2015. ↩︎
- فريد زكريا، ما بعد الليبرالية: مستقبل الديمقراطية في القرن الحادي والعشرين، دار الكتاب العربي، بيروت، 2019. ↩︎
- عزمي بشارة، سوريا: درب الآلام نحو الحرية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2013. ↩︎
- باتريك سيل، الأسد: الصراع على الشرق الأوسط، ترجمة حسام عيتاني، دار الساقي، بيروت، 1995. ↩︎
- ريم تركماني، Understanding the Syrian Conflict: Geopolitics and the Fragmentation of Sovereignty، London School of Economics, 2018. ↩︎

فلاسفة العصر الحديث : بلفون وتدورون كي لاتقولو ا الحقيقه : ولكي لاتسموا الاشياء باسمها وبهذا تشاركون عن قصد اوبدون قصد في التامر لابعاد المواطن السوري عن حقيقة مايحدث في بلاده . كل ماحدث ويحدث في سوريا يرد بجذلقة غريبة الى ثنائية الجغرافيا والسردية : لاقراءة سياسية ، لاقوى اجتماعيه :لاقوى استعمارية . في العام 924 فسمت فرنسا سوريا الى اربع دول : دولة العلويين ،دولة الدروز ، دولة حلب ودولة دمشق وانشأت لها حكومات وبرلمانات . لكن الشعب السورو بكل مكوناته رفض : قالوا لن تلعبوا علينا بالطائفية : نجن جزء من الدولة الفيصلية في دمشق . بعد 80سنة الشعب السوري يدمر بلاده بالطائفية هل السبب الجعرافيا . كل هذه التعمية لكي لاتقال الحقيقه وهي ان مايحدث في بلادنا هو ثورة مضاده وان القوى الاستعمارية واعوانها من كلاب الحليج حركوا القوى الرجعية المتخلفة في بلادنا ودعموها بالمال والسلاح والاعلام كي تصل الى السلطة مستغلين مالدى النظام السابق من ثغرات واولها الممارسة الطائفية ..